الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
فَرَاغَ إِلَىٰٓ ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ۝ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ۝ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ۝ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ۝ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ۝ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ۝ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ۝ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ۝ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ۝ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ [سورة الصافات:88-98].

إنما قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجُهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاماً هو حق في نفس الأمر، فَهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه".

بعضهم يقول: سقيم من هذه الحالة التي أنتم فيها من الإشراك، والكفر بالله ، وعبادة غيره، فذهب وهمهم إلى المرض أي معتل يعني اختل مزاج بدنه، هذا هو المرض.

"فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ قال قتادة: "والعرب تقول لمن تفكّر: نظر في النجوم" يعني قتادة: أنه نظر في السماء متفكراً فيما يلهيهم به، فقال: إِنِّي سَقِيمٌ أي: ضعيف".

قوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ۝ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ كثير من المفسرين كما نقله الواحدي يقولون: إن هؤلاء كانوا يتعاطون النظر في النجوم، يعتقدون في النجوم، ويستدلون بأحوالها على الأحوال الأرضية كما هو معروف في حال هؤلاء، فيقولون: إنه عاملهم بذلك مجاراة لما كانوا عليه ظاهراً ليتوصل إلى مطلوبه، ليتخلف من مطلوبهم عن حضور عيدهم، وهذا العيد عيد مكاني من الأعياد الزمنية، والأعياد المكانية، فقد يكون الزمانُ حدثٌ له كما هو ظاهر، ويكون له مكان محدد كعرفة مثلاً عيد زماني مكاني، أما عيد الفطر فإنه عيد زماني، عرفة عيد مكاني يجتمع الناس فيه في يوم محدد، فهؤلاء يخرجون إلى عيد لهم، هذا العيد يجتمعون فيه، الشاهد أنه أراد أن يتخلف عن هذا العيد، وأن لا يحضر فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ۝ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ لما نظر قال: إِنِّي سَقِيمٌ يعني في مستقبل كل إنسان سيجدّ عليه المرض إِنِّي سَقِيمٌ أي إنه سيمرض مستقبلاً، وإنه لا يسلم أحد من مرض، واعتلال، وما أشبه ذلك، وبعضهم كالحسن يقول: لما دعوه إلى الخروج فكر ماذا يفعل، وهذا التفكر يعبر عنه بهذا فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ بمعنى أن العرب تقوله لمن تفكر، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فيما يعمل، يقصدون أنه نظر، وتأمل فيما ينجم له من الرأي، ما ينجم له من الرأي: يعني ما يخرج له، ويتوصل إليه من الرأي، فعلم أن كل شيء يصيبه المرض، ويسقم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فيكون من قبيل التعبير عن الأمر المستقبل ببالك، إِنِّي سَقِيمٌ يعني مستقبلاً أن ذلك سيصيبه كما قال الله : إِنَّكَ مَيِّتٌ [سورة الزمر:30] هذا باعتبار ما سيكون وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ فيكون هذا محملاً، وبعضهم يقول: إن الرجل إذا تفكر نظر في النجوم، فصار ذلك يعبر به عن التفكير يعني لا يقيد هذا القول بقول: ينظر فيما نجم له، هذا الفرق مع الذي قبله أن الذي يفكر ينظر في النجوم، فقيل عن التفكير مثل هذا التعبير نظر في النجوم إذا كان الرجل يفكر في أمر يدبره ونحو ذلك، وهذا قال به بعض أصحاب المعاني كالمبرد وقال به غيره كالخليل بن أحمد، وبعضهم يقول: إنه كان مريضاً في الساعة التي دعوه فيها فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ۝ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فاعترض لهم بعذر واقع صحيح، كان تعتاده الحمى، وكان الوقت الذي طلبوا منه الخروج هو الوقت الذي تأتي فيه الحمى هكذا قال بعضهم: يعني سواء في اللحظة كان مريضاً جداً، أو في التوقيت الذي دعوه يعني في اليوم الآخر مثلاً أن يخرج معهم هو عرف أنه يمرض في هذا الوقت، وهذا فيه تكلف لا دليل عليه، - والله تعالى أعلم -، وبعضهم يقول كالضحاك فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ: باعتبار أن كل إنسان سيأتيه مرض الموت فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، وهذه الأقوال هي محاولة لتفسير ذلك فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، ويكون ذلك من قبيل التورية حتى إن بعضهم قال: إنه أشار لهم إلى مرض يعني يُعدِي بإذن الله، فعصب رأسه، وأوهمهم أن به الطاعون فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ يعني فروا منه، وهذا بعيد - والله تعالى أعلم -، ولا دليل عليه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ذهبوا إلى شأنهم، وتركوه، وقوله: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ يمكن أن يكون باعتبار المستقبل، ويمكن باعتبار الحال إما أن يكون سقيماً، معنوياً؛ بسبب ما يرى من عبادة غير الله ، وإصرار هؤلاء على الشرك والكفر، ويمكن أن يكون في حينها كان معتلاً، ولكن في الحدث الذي يأتي ذكر النبي ﷺ في الكذبات التي كذبها إبراهيم ﷺ أنه قال: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فالظاهر - والله تعالى أعلم - أن ذلك من باب التورية، وأنه حينما نظر في النجوم هو لا يعتقد في النجوم، ولكنه فعل ذلك من أجل أن - يعني كما يقال - يكتمل المشهد، يعني ليقبلوا ذلك، ويعذروه، فيعرضوا عنه وهم أهل نظر في النجوم، فنظر في النجوم وقال: إِنِّي سَقِيمٌ إما باعتبار الحال، أو باعتبار المستقبل أنني سأمرض، يعني يقول لهم: سأمرض، باعتبار أن النظر في النجوم كانوا يستدلون به على أحوال الأرضية يعني نَظْرَةً فِي النُّجُومِ قال: إنه سيصيبني في هذا الوقت المرض مثلاً يحتمل هذا، فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا من قبيل التورية كما يدل عليه الحديث، ولا يظهر أنه كان مريضاً حينها، - والله أعلم -، لكن كل إنسان سيمرض إذا قال الإنسان باعتبار أنه مستقبل فلا إشكال، تقول: أنا مسافر يعني باعتبار المستقبل، يعني الآن لو أن أحداً قال لك: اذهب معي، تقول: أنا مسافر؛ وتقصد أنك مسافر إلى الله، أو تقصد أنك في المستقبل ستسافر؛ هذه التورية، هل هذا يكون من قبيل الكذب؟ الجواب: لا، لكن لا يتوسع الإنسان في مثل هذه الأمور كما هو معلوم بعد ذلك لا يعرف له حق من باطل، كل كلامه تورية؛ لكن إذا ضاق الأمر ففي المعاريض مندوحة عن الكذب.

"فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا عن أبي هريرة  أن رسول الله ﷺ قال: "لم يكذب إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [سورة الأنبياء:62]، وقوله في سارة: هي أختي فهو حديث مخرج في الصحاح، والسنن من طرق، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله - حاشا وكلا - وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، وقيل: أراد أي: مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله ، وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم، فأرادوه على الخروج، فاضطجع على ظهره، وقال: إِنِّي سَقِيمٌ، وجعل ينظر في السماء، فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها، رواه ابن أبي حاتم.

ولهذا قال تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي: إلى عيدهم، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة، واختفاء".

سرعة واختفاء من قوله: فراغ، مع أن أكثر المفسرين في هذا الموضع لا يفسرونه بالذهاب بسرعة، وخفاء، وإنما يقولون: مال إليه، راغ أي مال، هذا عامة المفسرين، لكن مضى الكلام على هذا المعنى في بعض المناسبات فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ [سورة الذاريات:26] راغ من الروغان وهو الذهاب بسرعة، وخفاء

يعطيك من طرفِ اللسانِ حلاوةً ويروغُ منك كما يروغُ الثعلبُ

يروغ الثعلب: يميل يذهب بسرعة، وخفاء.

"ولهذا قال تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي: إلى عيدهم، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة، واختفاء، فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتُبرّك لهم فيه.

فلما نظر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: أَلا تَأْكُلُونَ ۝ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟!".

الآن على قول ابن كثير هذا الطعام فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ كانوا يضعون عندها طعاماً لا لتأكل وإنما للتبرك، يعني يضعون عندها طعامهم طعاماً لهم ليتبركوا بهذه الآلهة، لينالوا بركتها، لتبارك لهم هذا الطعام، وبعضهم يقول: كانوا يصنعونه لها لتأكل، وهل يعقل هذا؟ الجواب: نعم كل شيء يتصور من هؤلاء الوثنيين، ولا يزال يوجد إلى اليوم في بعض النواحي كما في بلاد الهند من يضعون أطيب الطعام، وأفضل الطعام في بلد يوجد فيها ملايين من الفقراء الذين لا يجدون ما يقيمون أصلابهم يضعونه لأصنامهم، ويعتقدون أن هذا الصنم إذا كان راضياً عنهم فإنه راضٍ عنهم من هذا الطعام، وهكذا في كل يوم يجددون ذلك، فيُتصور هذا من هؤلاء الوثنيين فإن العقل يصير على حال من المسخ، فيصل الأمر إلى هذا الحد، وبعضهم يقول: هذا الطعام يوضع لسدنة الأصنام، فكان موضوعاً فقال إبراهيم ﷺ: أَلا تَأْكُلُونَ وهو موضوع للسدنة، وبعضهم يقول: إن إبراهيم ﷺ لربما هو الذي قربه إليهم إلى هذه الأصنام أعطاهم مستهزءًا فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ دفع إليهم طعاماً، فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ يسخر من هذه الأصنام، وممكن أن يكون هناك طعام تركوه لأنفسهم يتبركون، أو السدنة، أو كانوا يضعونه لها، ليس عندنا دليل على شيء من هذا، لكن دل على وجود طعام قوله: أَلا تَأْكُلُونَ.