الإثنين 12 / ذو الحجة / 1446 - 09 / يونيو 2025
وَهَلْ أَتَىٰكَ نَبَؤُا۟ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا۟ ٱلْمِحْرَابَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ۝ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ۝ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ۝ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۝ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [سورة ص:21-25].

قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثاً لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ، ويزيد - وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة -، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله ، فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضاً".

ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من الإعراض عن الروايات التي امتلأت بها كثير من كتب التفسير للأسف من روايات لا تليق مع أحد من صالحي الأمة، فضلاً عن نبي من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، لا شك أن هذا الإعراض هو المتعين، ولكن ليس ذلك يعني أنه لا يفهم المعنى، ولا يريد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حينما يقول: يقتصر على قراءتها، أن المعنى لا يفهم، المعنى مفهوم، أنه جاءه خصوم، وعرضوا عليه هذه القضية، وأنه حكم فيها، لكن ما دواعي ذلك وما سببه، وهل كان هؤلاء من الملائكة، أو كانوا من الإنس، هذا الذي عناه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، ومما يذكر من القصص أن الله أراد أن يعلمه، وأن يبين له بهذه القضية أمراً كان قد وقع فيه، فهذا كله ينبغي أن يُعرَض عنه أعني ما يذكر من القصص، والأخبار التي لا تليق مع مقام داود - عليه الصلاة والسلام -، فقوله - تبارك وتعالى -: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فالخصم مصدر وهو يصدق على الواحد، والجمع، كما يصدق على المثنى وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ، ولهذا جاء بعده بضمير الجمع إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ وهما اثنان، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، ويصح التعبير عن الاثنين بضمير الجمع إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [سورة التحريم:4]، فقلوب جمع، سواء قيل: إن أقل الجمع اثنان أو قيل: إن ذلك يعبر به عن هذا في لغة العرب، وهنا وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ يعني: الخصوم، هؤلاء هل كانوا من الملائكة، أو كانوا من الإنس؟، بعضهم كالنحاس يقول: لا خلاف بين المفسرين أن هؤلاء كانوا من الملائكة، هذا قول أكثر المفسرين، لكن بناءً على هذه الروايات الإسرائيلية أن القضية لم تكن خصومة حقيقية، وإنما كانت من قبيل ضرب المثل لداود - عليه الصلاة والسلام - ليتبين أمراً قد وقع فيه، هكذا قالوا، أنها ليست خصومة حقيقية بين اثنين لكن جاءوا إليه ليبينوا له، والواقع أنه ليس هناك اتفاق وإجماع بين المفسرين أن هؤلاء من الملائكة، وقد قال بعض المفسرين: إن هؤلاء كانوا من الإنس، وإنها كانت قضية حقيقية، وخصومة وقعت بينهم فيما ذكر - فالله تعالى أعلم - وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ على قول أكثر المفسرين يكون ذلك كأنه من قبيل ضرب المثل، وليُتبين به أمرٌ آخر، وهذا يمكن أن يؤخذ منه بعض المعاني أو بعض الأشياء، لكنه لما كان ذلك لا يقطع به؛ فإن الجزم بذلك قد لا يخلو من إشكال، وأعني بهذا أنه هل يجوز مثلاً ذكر القصص غير الحقيقية للفائدة، وإيصال المعاني النافعة للناس، والناس يعرفون أنها قصة غير حقيقية؟ يعني هذا يُسأل عنه كثيراً، بعض الناس يقول: أنا أؤلف قصصاً أكتب قصصاً، بل حتى بعض الأمهات تقول: أنا أقص على أولادي قصصاً فيها فوائد - الأطفال الصغار -، فهل يتطلب ذلك أن أقول: لنفترض، لنتصور، أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على أنها غير حقيقية، أو يكفي أن أقول: كان في كذا، وحصل كذا، وذلك لم يحصل؟، ومن أهل العلم من قال: إن هذه ليست واقعة حقيقية، ولكن هؤلاء لا يقصدون أن قصص القرآن غير حقيقية، فهذا قول فاسد، ولا يقول به أحد من أهل العلم المحققين الثقات، وإنما الذين قالوا ذلك قالوا هذا في خصوص هذا الموضع، قالوا: إنما هو من قبيل ضرب المثل، ولم يكن ذلك واقعاً، ومضى الكلام على هذا، وقلت: إن الراجح حينها أنها قصة حقيقية، وأن هذا على ظاهره، وليس له صارف مثل هذا، هنا في هذا الموضع: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ عند من يقول: إن ذلك كان من قبيل ضرب المثل والتقريب يمكن أن يحتج بهذا على أنه لا بأس، لاسيما أن السامع يعلم بذلك، ولا يحتاج أن يقدم بمقدمة، ويقول: لنفترض أو نحو هذا، وقد يحتج به أيضاً من يقول: إنه يجوز أن يحاكي، أو أن يقوم بمزاولات وأعمال تحكي شيئاً معيناً، أو واقعاً معيناً، أو حالاً معينة، أو وقائع مفترضة متصورة لإيصال معانِيَ يجسدها بهذه المزاولات وهو ما يسمى اليوم بالتمثيل، بضوابطه عند من يجيزه بضوابط من أهل العلم، لا يعد ذلك من قبيل الكذب، فبعض أهل العلم يقول: يجوز، وأنه ليس من قبيل الكذب، وأنه من قبيل ضرب المثل، ويذكرون على هذا أشياء.

وفي كلام أهل العلم كابن القيم وغيره يذكرون أشياء هي من قبيل ضرب المثل، يعني يجرونها على ألسن الحيوانات، وعلى ألسن بعض الكائنات، والمخلوقات؛ مما ينطق أو مما لا ينطق، حتى بعض الجمادات، فيحتج بعضهم بمثل هذه الأشياء، وأنهم لا يرون بها غضاضة، وليس الكلام في هذا، لكن على قول عامة أهل العلم، وما نقل النحاس عليه يعني ما يشبه الاتفاق قال: "لا خلاف بين المفسرين أنهما ملكان" فتكون تلك الواقعة غير حقيقية، يعني: لم تكن خصومة حقيقية، هذا المقصود، والعلم عند الله - تبارك وتعالى -، قد يكون هذا، وقد يكون هذا وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ.

"وقوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو أشرف مكان في داره، وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم.

قوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ المحراب قال هو: محرابه، وهو أشرف مكان في داره، وبعضهم كيحيى في تفسيره يقول: إنه الغرفة إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ الغرفة، والغرف إنما تقال لما كان في الأعلى، يعني: كأنها أشرف المساكن، فهذا يرجع إلى هذا المعنى، وهكذا من قال: إنها صدور المجالس، فهذا يرجع إلى هذا المعنى، يعني: أشرف المجالس يقال لها: محاريب، فالمحاريب تقال للأماكن الشريفة في المجالس، والبيوت، ولهذا قيل لمَا يكون في مقدم المسجد الذي يصلي فيه الإمام صدر المسجد يقال له: محراب؛ لهذا المعنى، الأماكن الشريفة في المجالس، والبيوت ونحو هذا، فمن قال: الغرفة مثلاً، فهو يرجع إلى هذا المعنى، باعتبار أن الغرف أشرف المواضع، فكلامهم يرجع إلى شيء واحد إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فكان يجلس في هذا المكان الذي هو أشرف المواضع في بيته، فتسوروا عليه، دخلوا عليه إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، قال: وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم، فلم يشعر إلا بشخصين...، ابن الأعرابي يقول: إن البنيان على هذا المحراب، أو على هذا المكان الذي دخلوا فيه قال: لا يستطيع أحد أن يتسوره، فلما تسوروا فزع منهم، كيف استطاعوا الوصول إليه، وبعضهم يقول: إنه أمر خادمه أن يقف على الباب، ولا يأذن لأحد، ففوجئ بدخول هؤلاء، فالحاصل أن داود ﷺ كان قد قسم الزمان بين عبادة، وصلاة، وجلوس إلى الناس، وراحة، فكان يفصل بين الناس في الخصومات، ودخل عليه هؤلاء في غير وقت جلوسه للناس إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، وأما ما يذكر في بعض الروايات الإسرائيلية في سبب ذلك فإن هذا لا يعول عليه بحال من الأحوال.

"فلم يشعر إلا بشخصين قد تَسَوَّرا عليه المحراب أي: احتاطا به، يسألانه عن شأنهما".

قال: تسورا عليه المحراب، أي: احتاطا به يسألانه عن شأنهما، احتاطا به يعني أحاطوا به، لكن الذي يظهر - والله أعلم - أن التسور المقصود به معنى غير هذا، وهو الذي عليه عامة المفسرين، فتسوروا المحراب بمعنى أنهم لم يأتوا من الباب وإنما من السور، أتوا من سور الحائط؛ لأن السور هو الحائط المرتفع، فهؤلاء أتوه من أعلى السور، ونزلوا عليه، فدخلوا عليه من غير باب المحراب، هذا الذي يذكره المفسرون، وهو معنى التسور، وليس ذلك - والله تعالى أعلم - بمعنى الإحاطة به، لكن كأن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أخذ هذا من أصل هذه المادة، من أن السين والواو والراء تدل على معنى الإحاطة، أو أن من معانيها الإحاطة، ولهذا يقال: سور المدينة ففيه معنى الارتفاع، وفيه معنى الإحاطة؛ لأنه يحيط بها، ومن ثَم قيل: السوار لإحاطة أيضاً، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ يعني: كأنهم قد أحاطوه، لكن لو قال: تسوروا داود - عليه الصلاة والسلام - لكان هذا المعنى متجهاً، يعني: أحاطوا به عن يمينه، وعن يساره، ولكنه قال هنا: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فهل معنى ذلك أنهم كانوا على يمين المحراب، ويسار المحراب؟، الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن المقصود معنى آخر وهو أنهم أتوه من أعلى السور: سور المحراب، قال: يسألانه عن شأنهما.

ومعنى وَلَا تُشْطِطْ يعني: لا تجُرْ في الحكم، نهي عن الجور فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، فإذا حكم بينهم بالحق فإنه لا يكون جائراً، ولكن لزيادة التأكيد وَلَا تُشْطِطْ، وَاهْدِنَا قال: يأمرونه بهذا وهو نبي الله - عليه الصلاة والسلام -، نبي، وملك، فيأمرونه بأن يهديهم سواء الصراط، وسواء هنا صفة، وذلك من إضافة الصفة إلى الموصوف إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ يعني: الصراط المستوية، وسواء الصراط بمعنى: وسط الصراط يعني أرشدنا إلى الحق، واحملنا عليه، فلاحظ مثل هذا المخاطبة، والفعل قبلها، جاءوا إليه في وقت خلوته، من غير إذن، وتسوروا عليه المحراب، حتى إن ذلك أفزعه مع ما هو فيه من القوة، والتمكن، والملك، ورباطة الجأش، ومع ذلك قالوا له وخاطبوه بهذه المخاطبة فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ، وأيضاً أمروه، ونهوه؛ وهو نبي الله - عليه الصلاة والسلام -، وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ فمثل هذا لو أنه حصل لآحاد الناس لما تقبله أحد، وقد حصل لنبي الله داود - عليه الصلاة والسلام -، فأهل العلم - طلاب العلم - لهم أسوة بهذا، وهذه التربية تستفاد من هذا الموضع من كتاب الله - تبارك وتعالى -، فداود - عليه الصلاة والسلام - ما زجرهم، ولا آذاهم، ولا أمر بحبسهم، وكان يستطيع ذلك، ولكنه حكم بينهم بما أرادوا، وفصل في هذه القضية بما ظهر له، فقد يلقى طالب العلم من الناس شططاً وأذية، وسوء أدب في السؤال، أو في وقت الاتصال أو نحو ذلك، وليس ثمة إلا الصبر، وكثير من الأحيان قد ينسى الإنسان مثل هذه المعاني - والله المستعان -.

"وقوله : وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: غلبني، يقال: عزّ يَعُزُّ إذا قهر، وغلب".

يعِز يعني الشيء القليل، لكن عز يعُز بمعنى قوي، وغلب، وعلى هذا المعنى، وقد مضى الكلام على هذا مراراً، والمثل المضروب فيه: من عَزّ بَزّ، ومن غلب استلب، والعزة التي أثبتها الله للكافرين فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [سورة ص:2] فوصف هؤلاء الكفار بأنهم في عزة، وقلنا العزة هناك بمعنى: الأنفة، والترفع عن الحق، فهو معنى مذموم، التعالي على الحق، وليست العزة المعروفة التي تكون من أوصاف الكمال، فهذه منفية عنهم، وهي التي قال الله فيها: فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [سورة النساء:139]، وأثبتها أيضاً له - تبارك وتعالى - ولرسوله ﷺ، ولأهل الإيمان، فهنا قوله: وَعَزَّنِي بمعنى العزة التي هي بمعنى الغلبة، وأما التي أثبتها للكفار هناك فليست بمعنى الغلبة، فهنا قال: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: غلبني، فهو يتكلم بقوة، وبعبارة أفصح من عبارة صاحبه وما إلى ذلك، ماذا قال له؟ هنا ما ذكر قوله: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ، فالذين يذكرون الروايات الإسرائيلية وما إلى ذلك يقولون: هذا فيه إشارة إلى معنى وقع من داود ﷺ، والواقع أنه منزه عن ذلك، لكن المقصود بالنعجة بعضهم يقول: النعجة المقصود بها نعجة حقيقية، وهي أنثى الضأن، وأنهم اختصموا في هذا، وبعضهم يقول المقصود بالنعجة هنا المرأة، فهذا له تسع وتسعون امرأة، وهذا له امرأة واحدة، فيقول له: انزل لي عنها، طلقها حتى أتزوجها، واختيار ابن جرير - رحمه الله - أن المقصود بالنعجة المرأة في هذا الموضع، ولربما يتعجب الإنسان من مثل هذا، أو يستنكف لاسيما النساء، تقول: كيف يقال عن المرأة: إنها نعجة؟، لكن لو علم النساء المعنى المراد لرحبن به، وفرحن بذلك، وسررن به، فماذا يقصد العرب حينما يقولون هذا؟، يقصد العرب بذلك البقرة الوحشية؛ فإن العرب تطلق النعجة على أنثى الضأن، وتطلقها على البقرة الوحشية، والمقصود بالبقرة الوحشية المها: وهي نوع من الظباء، عادة ما تشبه بها النساء، تشبه بها في بياضها، يقال: النساء البيض، يقال عن النساء البيض، ولذلك يقال للمرأة في بيئتنا الصحراوية يقال: وضحا من الوضح وهي الإبل البيض، يقال: وضحا، وتسمى المرأة بهذا، فالمها يشبهون المرأة بها - وهي التي يسمونها البقرة الوحشية - في بياضها، وفي عنقها، وفي جمال عينيها من سوادها ونحو ذلك، فهي في غاية الجمال، فيقال:

عيونُ المَها بين الرُّصافةِ والجِسرِ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

وهذا كثير في شعر العرب، وفي منثور كلامهم، فهذا مقصودهم حينما يقولون: النعجة هي المرأة في هذه الآية، وليس المقصود أنثى الضأن، لا يقصدون هذا، وإذا اتضح هذا المعنى زال الإشكال، وما قد يستهجن من قول بعض المفسرين أو يستبعد جداً، فإذا عرف أن المراد هو هذا المعنى هان وقعه على النفوس - والله المستعان -.

"قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "أي اختبرناه"".

قوله: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ يعني هذا الذي حمل أكثر المفسرين على أن ذلك كان من قبيل ضرب المثل لداود ﷺ، لكن يمكن أن يقال: إنها كانت خصومة حقيقية، وإنهما لم يكونا ملكين وإنما من الإنس، فوقع له فتنة بسبب ذلك، وهذه الفتنة قد يكون المراد بذلك - والله تعالى أعلم - أنه حكم قبل أن يسمع قول الخصم الآخر، فقد تكون هذه هي الفتنة، والاختبار، والله - تبارك وتعالى - يظهر لعباده ما يوجب افتقارهم إليه - تبارك وتعالى -، وخضوعهم كما قال موسى ﷺ حينما كان في ملأ من بني إسرائيل وسألهم: من أعلم الناس؟ فحصل ما حصل من اتباعه الخضر، كما حكى النبي ﷺ ذلك مفصلاً، وقد جاء في كتاب الله - تبارك وتعالى -، فقوله: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ قال: أي اختبرناه، ومعنى الظن هنا العلم، ظن أي: علم، أَنَّمَا فَتَنَّاهُ، ومعلوم أن الظن يأتي بمعنى العلم كما قال الله : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة:46] يعني: يعلمون، ويتيقنون.

"وقوله تعالى: وَخَرَّ رَاكِعًا أي: ساجداً وَأَنَابَ".

الركوع هنا بعضهم كابن العربي - رحمه الله - يقول: لا خلاف أن المقصود به السجود، والواقع أن هناك من خالف في هذا، فبعضهم قال: وَخَرَّ رَاكِعًا يعني: الركوع المعروف، والركوع يقال للسجود، ويقال أيضاً للصلاة، فهذا الانحناء يقال له: ركوع، وبعضهم يقول: والسجود هو وضع الجبهة على الأرض، والواقع أنه يعبر بهذا بالركوع عن السجود، وَخَرَّ رَاكِعًا ويدل عليه أن النبي ﷺ لما قرأها سجد، وكانت في عداد المواضع التي يسجد فيها، ولكنها ليست من عزائم السجود، فدل على أن الركوع أطلق وأريد به السجود، فإن الركوع يقال للانحناء الذي هو بمعنى الركوع الذي نسميه الركوع دون وضع الجبهة على الأرض، ويكون بمعنى وضع الجبهة على الأرض، فكل ذلك يقال له: ركوع، كما يقال السجود للانحناء بمعنى الركوع، وذلك في قوله - تبارك وتعالى -: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58] وليس المقصود أنهم يدخلون وقد وضعوا جباههم على الأرض، وإنما المقصود يدخلون في حال من الانحناء الذي هو بمعنى الركوع، خضوعاً لله - تبارك وتعالى -، وشكراً على نعمة الفتح، فيقال السجود لهذا، ويقال الركوع أيضاً لهذا، ولا إشكال وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ.

ولفظة "خر" تشعر بأن المقصود إلى الأرض أهوى إليها، ووضع جبهته على الأرض، وَأَنَابَ يعني: رجع إلى الله - تبارك وتعالى - وتاب.