الخميس 19 / صفر / 1447 - 14 / أغسطس 2025
كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوٓا۟ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَٰبِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ۝ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ۝ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ [سورة ص:27-29].

يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً، وإنما خلقهم ليعبدوه، ويوحدوه، ثم يجمعهم يوم الجمع ،فيثيب المطيع، ويعذب الكافر؛ ولهذا قال - تبارك وتعالى -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: الذين لا يرون بعثاً، ولا معاداً، وإنما يعتقدون هذه الدار فقط فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي: ويل لهم يوم معادهم، ونشورهم؛ من النار المعدة لهم.

ثم بيّن تعالى أنه من عدله، وحكمته؛ لا يساوي بين المؤمنين، والكافرين فقال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ أي: لا نفعل ذلك، ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة، والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد، وجزاء، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله، وولده، ونعيمه، ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلابد في حكمة الحكيم، العليم، العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء، والمواساة، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة، والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى: كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ أي: ذوو العقول وهي الألباب جمع لب، وهو العقل".

قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، بَاطِلا يعني: من غير حكمة، يعني أن الله خلقها عبثاً قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يذكر معنى وقد دل عليه القرآن، وذكره كثير من أهل العلم كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن المعاد يمكن أن يستدل عليه بالعقل، يمكن إثبات المعاد بالعقل، وحاصل ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا.

وقوله - تبارك وتعالى -: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ هذا الاستفهام إنكاري، يعني: أن هذا لا يكون، ودل ذلك على أن مثل هذا الأمر أنه قبيح في نفسه، وهذا يستدل به أهل السنة والجماعة على أن من الأشياء ما يكون له قبح ذاتي، ومسألة التحسين، والتقبيح؛ مضى الكلام عليها في بعض المناسبات، وأن المعتزلة يضطردون على قواعدهم، ويقولون: إن التحسين، والتقبيح؛ كل ذلك مرجعه إلى العقل، وأن الأشاعرة لما كانوا يتناقضون خالفوا أصلهم في هذا من تقديم العقل على النقل، وقالوا: إن مرجع التحسين، والتقبيح؛ إلى النقل، فجاءوا بأمور لا يمكن أن يقبلها العقلاء، قالوا: لو أن الله حسَّن الزنا، وأقرَّه؛ لكان حسناً، ولو أن الله حسَّن الظلم، والعقوق، والكذب، والفجور؛ لكان حسناً، يقصدون بذلك لو أن الله أمر به لكان حسناً، فهم عندهم الحسن، والقبح؛ مرتبطان بالأمر، والنهي، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن هناك مقدمة قبل ذلك، وهي أن من الأشياء ما يدرك حسنه أو قبحه بالعقل، هم يقولون: لا مدخل للعقل في هذه الأشياء إطلاقاً، وهذا الكلام غير صحيح، وإنما وقعوا في ذلك بسبب بعض المناظرات مع المعتزلة، فالأشياء على نوعين: منها ما لها حسن أو قبح ذاتي تدركه العقول مثل: الظلم، والكذب، والفجور، السرقة، وما إلى ذلك، فهذا يدركه العقل، وهناك أشياء لا يدركها العقل فنهى عنها الشرع، فدل على أنها قبيحة، فهنا نقول: إنها قبيحة؛ لأن الشرع نهى عنها، والشرع لا ينهى إلا عن شيء قبيح، فهذه هي خلاصة الكلام في هذه المسألة، فأهل السنة يقولون: إن العقل له مدخل في التحسين، والتقبيح؛ حيث يدرك حسن أو قبح الأشياء التي لها حسن، أو قبح ذاتي، كالعدل مثلاً فهو حسن، الصدق حسن، وما إلى ذلك، فهذه لها حسن ذاتي يدركه العقل، وهناك أشياء لا يدركها العقل، فما أمر به الشارع فهو حسن، وما نهى عنه فهو قبيح، ولا يمكن أن ينهى عن العدل، والصدق، والفضيلة وما إلى ذلك من العفاف، والمعاني الكاملة، أو يأمر بأمور باطلة، وفاسدة؛ كالظلم، والفجور، والفواحش وما إلى ذلك، لا يمكن أن يحصل هذا، فكل ما أمر به الشرع فهو موافق للعقول الصحيحة، فيما كان للعقل فيه مجال أن يدركه.

وقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ يعني هذا لا يكون لا في الحياة، ولا في الممات كما قال الله : لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [سورة الحشر:20] فنفيُ الاستواء يحمل على أعم معانيه، لا يستوون بحال من الأحوال لا في معاشهم، ولا في البرزخ، ولا يستوون في يوم معادهم، ولا في موضع القرار في الجنة أو النار، وكذلك ما جاء من الآيات أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ [سورة السجدة:18]، فنفى الله - تبارك وتعالى - التسوية بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن هذا خلاف الحكمة، والعدل.

في قوله: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ وصف الله - تبارك وتعالى - هذا الكتاب هنا بأنه مبارك، وذكر علة الإنزال قال: لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ فتدبر الآيات بمعنى التفكر، والنظر؛ فيما دلت عليه، وما تضمنته، وما حوته من ألوان الهدايات، والعبر، والعظات، والمعاني، والحكم، والأحكام وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ، فالتذكر نتيجة للتدبر فإنه إذا تدبر حصل له التذكر، هنا قال: لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وفي القراءة الأخرى لتدبروا آياته، فهذه إحدى الآيات الأربع في التدبر، أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ فهي عامة للجميع، وفي الآيات الأخرى وردت آيتان في المنافقين وهي قوله - تبارك وتعالى -: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [سورة محمد:24]، وفي موضعٍ ذكرَ الله ذلك في حق الكافرين أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68] فهنا ذكر الله - تبارك وتعالى - علة إنزال القرآن وهي التدبر، ومن ثَم التذكر الذي يعقبه العمل، والامتثال - والله المستعان -.