الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال: وقوله : هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ أي: هذا الذي أعطيناك من الملك التام، والسلطان الكامل؛ كما سألتنا فأَعطِ من شئتَ، واحرمْ من شئت، لا حساب عليك، أي: مهما فعلتَ فهو جائز لك، احكم بما شئت فهو صواب".

وهذا الذي مشى عليه ابن جرير - رحمه الله - يعني: أعطِ من شئت، واحرمْ من شئت من هذا الملك، والعطاء، وهذا أعم من قول من قال: إن ذلك يتعلق بهؤلاء الجن، والشياطين الذين سخروا له، بأنه يُبقي من شاء منهم، ويأسر من شاء منهم، ويستعمل في الخدمة، أو الأعمال الشاقة؛ من شاء منهم، ويمنن على آخرين فيطلقهم، ولا يُحاسَب، ولا يُسأل عن ذلك، والمُلك هو التصرف المطلق كما هو معلوم في كلام العرب.

"قال: وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما خُيِّر بين أن يكون عبدًا رسولاً - وهو الذي يفعل ما يؤمر به، وإنما هو قاسم يقسم بين الناس ما أمره الله به -، وبين أن يكون نبياً ملكاً يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء؛ بلا حساب، ولا جناح[1]، اختار المنزلة الأولى بعدما استشار جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال له: "تواضع"، فاختار المنزلة الأولى؛ لأنها أرفع قدراً عند الله، وأعلى منزلة في المعاد، وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا، والآخرة؛ ولهذا لما ذكر - تبارك وتعالى - ما أعطى سليمان - عليه الصلاة والسلام - في الدنيا؛ نبه - تعالى - على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضاً فقال تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ أي: في الدار الآخرة".

يعني أن ذلك لم يُنقص من حظه في الآخرة، وهذه مسألة العلماء تكلموا عليها، تكلم عليها الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات، وتكلم الحافظ ابن القيم: العطاء الدنيوي هل يكون نقصاً في حظ الإنسان من الآخرة؟ فالذين يقولون: إنه ينقصه يحتجون بالآثار الواردة عن السلف، أشياء عن عمر أنه كان يترك بعض الطيبات، والتوسع في المباحات؛ فكأنه يتأول قوله - تبارك وتعالى -: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف:20]، وكذلك ما جاء عن جماعة من السلف من الصحابة، لربما بكى الواحد منهم حينما يتذكر إخوانه الذين قتلوا، وما حصل لهم شيء من السعة في الدنيا، وتحصيل المغانم، فكانوا يخافون أن يكون قد عُجلت لهم، أو عُجل لهم بعض أجورهم، وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث في كون الغزاة إذا حصّلوا الغنيمة فقد تعجلوا شطر أجرهم، فكل هذه الأمور مجتمعة يحتج بها من يقول: إن هذا العطاء الدنيوي، وهذا التوسع في هذه الأمور المباحة وما إلى ذلك؛ يكون نقصاً في حظ صاحبه، لكن هذا لا يرد في حق سليمان - عليه الصلاة والسلام -:

أولاً: لأن الله عقب ذلك بقوله: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى قرْب من الله - تبارك وتعالى -، وَحُسْنَ مَآبٍ حسن العاقبة، هنا عممها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في الدنيا، والآخرة، حسن العاقبة في الدنيا، والآخرة.

وذكْر الدنيا هنا لا معنى له، وإنما في الآخرة وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ، فهذا يدل على أن ذلك لا يُنقص حتى على القول بأن العطاء الدنيوي الكثير يكون نقصاً في حظ صاحبه، فهذا غير وارد هنا.

الأمر الثاني: أن هذا المُلك الذي سأله سليمان، وما أشرت إليه قبلُ؛ لم يكن تعلقاً بالدنيا، وحباً لها، وجمعاً لحطامها؛ كما هو فِعْل لربما مَن قلَّ حظه من معرفة الله - تبارك وتعالى -، والدار الآخرة، وإنما طلب ذلك لمعنى، هذا المعنى بعض أهل العلم قال: إنه طلب ذلك ليسخره للجهاد في سبيل الله، والدعوة إليه، والعمل بمرضاته، فهذا يكون قد طلبها للآخرة، وبعضهم يقول: لما وقع له هذا الابتلاء أراد أن يعرف منزلته عند الله بعده، فطلب هذا، فأجابه الله إليه، وبعضهم يقول ما هو قريب من هذا، يقولون: إنه طلب ذلك من أجل أن يكون له، يعني أن يخصه الله - تبارك وتعالى - بأمر يبين به فضله، ومنزلته عند الله ، وهذا قريب من الذي قبله، فهذا يرجع إلى أنه ما طلب الدنيا، ما طلب هذا الملك من أجل التعلق بالحطام الدنيوي، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أبعد الناس عن هذا، ولهذا لما عرضت عليه ملكة سبأ الهدايا، وبعثت بها إليه؛ ردها كما سبق، وأخبرهم أن ما آتاه الله أفضل مما يعطونه، ويقدمون إليه.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (7160)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وابن حبان في صحيحه، برقم (6365)، وقال محققه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".