أيضاً في قوله: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ أيضاً بعضهم يقول: هذا مبتدأ، ويكون الخبر: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، فَلْيَذُوقُوهُ بعضهم يقول على هذا التقدير: فيه تقديم، وتأخير، يعني: هذا حميم وغساق فليذوقوه، والقاعدة: "أنه مهما أمكن حمل الكلام على معنى يكون فيه مرتباً كما ذكر الله فهو أولى من دعوى التقديم، والتأخير"، وهذا من القواعد الترجيحية، فإن القواعد الترجيحية المقصود بها ما كان مبناه على هذه الزنة، إذا دار الكلام بين الإعمال، والإهمال؛ فالأصل الإعمال، إذا دار بين التأسيس، والتوكيد؛ فالمقدم التأسيس، هذا يسمى القواعد الترجيحية، لا كل ما يرجح به، فالشاهد هنا هَذَا فيكون مبتدأ، والخبر حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ هذا على كلٍّ ذكره بعضهم كالفراء والزجَّاج، وبعضهم جوز معنى آخر كالنحَّاس يعني أن يكون "هذا" خبراً يعني الأمر هذا، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ الأمر هذا، ويكون حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ خبراً أو خبرين لمبتدأ محذوف، أي الأمر هذا هو حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، ويحتمل أن يكون حَمِيمٌ مبتدأ، حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ - والله أعلم -.
يعني كما قال بعض السلف: الذي قَتل ببرده، يَقتل، طبعاً لا يوجد قتل في النار؛ لأنهم لا يموتون فيها، لكنه من شدة برده فأهل النار يعذبون بنوعي العذاب: الحار الحميم، والزمهرير وهو البرد الشديد الذي يقتل، هؤلاء الذين قالوا هذا قالوا: ومنه قيل لليل غاسق وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3] باعتبار أنه أبرد من النهار، وليس المقصود الاستعاذة هنا لكونه أبرد، إنما الليل لظلمته تنتشر فيه الشياطين، والأشرار، والهوام، والسباع؛ وما إلى ذلك، ينتشرون في الظلام، شياطين الإنس، والجن.
وهكذا قول من قال: إنه الثلج الذي قد انتهى برده يعني لشدة برودته، تناهى في البرودة، كما يقوله بعض السلف كمجاهد ومقاتل، هذا الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله - بصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة، وهو الأقرب باعتبار أنه قابله بالحميم حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ يعني يحصل لهم الحر الشديد، الحرارة التي تصهر الجلود، والأحشاء، ويحصل لهم أيضاً البرد الشديد الذي لا يطاق، وبعضهم يحمل الغساق على معنى آخر يرتبط بالحميم يعني لا يكون البرد وإنما بمعنى مرتبط بالحميم كأنه نتيجة له، فيقولون: هو ما سال من جلود، وعيون هؤلاء - أهل النار - من القيح، والصديد، ولهذا يقولون: غسقت عينه إذا سالت، وانصبت، ويقولون: إن الغساق هو الانصباب، حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ حميم ماء أو شراب في غاية الحرارة يصهر، وكذلك غساق ما يخرج من عصارتهم، وصديدهم، وما إلى ذلك؛ فيشربونه، ويسقونه هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -.
وبعضهم فسره بمعنى أيضاً يرتبط بالحميم قال: هو المنتن، كأن هؤلاء ذكروا صفة من صفاته يعني لا يخرج عن هذا القول، فهذا الغساق منتن الرائحة، فهو لا يطاق، وبعضهم يقول: إن الغساق هو عين في جهنم يعني تذيب أبعاضهم، وأبشارهم، وما إلى ذلك.
وبعضهم كقتادة يقول: ما يخرج من فروج أهل النار - النساء الزواني - من نتن لحوم الكفار، يعني هذا مثل قول من قال: منتن، النتن وما إلى ذلك، فيذوقون هذا، أو يشربونه، وهكذا قول من قال: إنه عصارة أهل النار، أو قول من يقول: إنه ما يسيل من دموعهم - نسأل الله العافية -، والأحاديث الواردة في صفة الكافر في النار، وأن مقعدة كما بين مكة والمدينة، وأن ضرس الكافر في النار كجبل أُحد سبعة كيلو في ثلاثة كيلو، سبعة في ثلاثة، هذا الضرس، وجاء في عضد الكافر، وجلد الكافر، جلد الكافر مسيرة ثلاثة أيام، هذه الأقوال ترجع إلى أنه مرتبط بالحميم، وليس المقصود شديد البرودة، فالآية في مجملها أن الغساق إما أن يكون شديد البرودة (زمهريراً)، والقرينة على ذلك أنه قابله بالحميم، فذكر المتقابلين، أو يكون المقصود معنىً يرتبط بالحميم، الغساق: ما يكون نتيجة لهذا الحميم من صديد، أو نتن، أو عصارة، أو دموع أو غير ذلك، يعني نعيم أهل الجنة مفتحة لهم الأبواب، وقاصرات الطرف إلى آخره، وهؤلاء في هذه الحال.