الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى خَٰلِقٌۢ بَشَرًا مِّن طِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۝ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۝ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ۝ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ۝ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ۝ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ۝ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ۝ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ۝ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ۝ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ۝ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص:71-85].

هذه القصة ذكرها الله - تبارك وتعالى - في سورة "البقرة"، وفي أول "الأعراف"، وفي سورة "الحجر"، و"سبحان"، و"الكهف"، وهاهنا، وهي أن الله - سبحانه - أعلم الملائكة قبل خلق آدم بأنه سيخلق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه، وتسويته؛ فليسجدوا له إكراماً، وإعظاماً، واحتراماً، وامتثالاً لأمر الله ، فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنساً، كان من الجن فخانه طبعه، وجبلته؛ أحوج ما كان إليه، فاستنكف عن السجود لآدم، وخاصم ربه فيه، وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار، وآدم خلق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد أخطأ في ذلك، وخالف أمر الله، وكفر بذلك؛ فأبعده الله، وأرغم أنفه، وطرده عن باب رحمته، ومحل أنسه، وحضرة قدسه، وسماه "إبليس" إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة".

أبلس: يعني يئس.

"بأنه قد أبلس من الرحمة، وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض، فسأل الله النَّظِرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يَعْجَل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد، وطغى".

هنا في قوله تعالى في هذه الآيات: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ۝ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۝ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ هذا قبل خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ [سورة البقرة:34] فهذه الآيات ليس بينها منافاة، هذا يدل على أنهم أُمروا بالسجود قبل خلقه، وفي المواضع الأخرى أنهم أُمروا بالسجود بعد خلقه، فيقال في الجمع بين هذه الآيات: إن الله - تبارك وتعالى - أعلمهم قبل خلقه أنه سيخلقه، فإذا خلقه فهم مأمورون بالسجود له، فلما خلقه أمرهم بعد الخلق بالسجود وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ أعلمهم قبل الخلق، وأنه إذا خلقه فعليهم السجود، فلما خلقه، واكتمل خلقه؛ أمرهم بالسجود فسجدوا، قال الله - تعالى -: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ وأكده بهذين التأكيدين، أقوى صيغة في التأكيد "كل وجميع"، فجاء بهما جميعاً، بعض أهل العلم يقول: إن كل واحدة لها معنى بناءً على قاعدة التأسيس مقدم على التوكيد، يعني سجدوا كلهم، الأولى للإحاطة يعني: ما تخلف أحد، والثانية في التوقيت يعني: سجدوا جميعاً في وقت واحد، وليس على أوقات مختلفة، كلهم سجدوا في وقت واحد كما يسجد الناس خلف إمامهم هكذا قال بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: الثانية تأكيد ومبالغة في التأكيد؛ لأن الملائكة جميعاً قد سجدوا فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۝ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ.

فأضاف خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى يديه بالتثنية، وقد صح عن النبي ﷺ ما يدل على أن الله باشر خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - بيده، أن الله خلقه بيده، فهذا فيه اختصاص لآدم، وكذلك بنى جنة عدن بيده، هذا بخلاف الإضافة بالجمع خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [سورة يس:71]، مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا أضافه إلى الأيدي، فهذا لا يعني المباشرة، وإنما أضافهم إليه - تبارك وتعالى - أنه خلق، يمتن عليهم أنه خلق هذه الأنعام، فإذا أضافه إلى اليد بالتثنية فهذا يقتضي المباشرة، وهذا جاء في خلق آدم ﷺ أما بصيغة الجمع فإن ذلك لا يقتضي المباشرة.

يقول: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ يقول هنا: أَسْتَكْبَرْتَ يعني: تركت السجود استكباراً على آدم، وترفعاً عليه، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قبل ذلك يعني فكان هذا الامتناع من السجود إنما هو أثر لهذا العلو، والترفع الذي كان صفة لك قبل أن تؤمر بالسجود لآدم ﷺ يعني: هل استكبرت فطرأ لك ذلك، ولم يكن وصفاً متحققاً فيك قبل ذلك وهو الاستكبار، أستكبرت الآن أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ يعني: كنت كذلك صاحب علو، وتكبر على ربك - تبارك وتعالى -، فكان من نتيجة ذلك وأثره الامتناع عن السجود لآدم ﷺ.

قال: وقال: لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ كما قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً".

هنا لم يتطرق لقوله تعالى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، وقد مضى الكلام على هذا في مناسبات عدة، وكلام العلماء في أن أول من قاس قياساً فاسداً، وقابل النص بالرأس هو إبليس - لعنه الله -، ويرد العلماء على إبليس من وجوه مختلفة كثيرة في قياسه الفاسد هذا في أن النار أشرف من الطين، ويبينون أن إبليس أخطأ في هذا القياس، وأن الواقع أن الطين أفضل من النار، فيقولون: النار من طبعها الخفة، والطين من طبعه الرزانة، والنار لا تكون إلا من عنصر من الأرض، أما الطين فلا يكون قيامه بالنار، ويقولون: النار لا تأتي على شيء إلا أتلفته وأحرقته، من طبعها الإحراق، والإتلاف، وأما الطين فتوضع فيه الحبة فتكون شجرة، وتوضع النواة فتكون نخلة مثمرة؛ وما إلى ذلك، فالحاصل أن العلماء يردون على إبليس في هذا القياس الفاسد، ويبينون أنه أخطأ في قوله هذا.

قال هنا: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ قد مضى الكلام على الرجيم في الكلام على الاستعاذة، وذكرنا هناك أنه يحتمل معنيين: الأول: أنه مرجوم إما بالسب، واللعن، وإما بالشهب التي ترمى على الشياطين، وأن الرجم يأتي بمعنى الطرد، والإبعاد، فهو مُبعَد مطرود من رحمة الله - تبارك وتعالى - فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وبعضهم يقول: رَجِيمٌ فعيل بمعنى فاعل هنا، ما هو مفعول، يعني يرجم الناس بالوساوس، والخواطر السيئة وما إلى ذلك، لكن هذا القول فيه ضعف، يعني الأول أشهر.

وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ۝ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ۝ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، بعضهم يقول: إلى النفخة الأولى التي يموت فيها الخلائق يعني نهاية الحياة الدنيا بالنفخة الأولى، وبعضهم يقول: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ البعث يكون بالنفخة الثانية، حيث تلتقي الأرواح بالأجساد، ويبعث الناس من قبورهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فالله قال له: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ۝ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الوقت الذي حدده الله ، وأراده.

قال: كما قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً [سورة الإسراء:62] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [سورة الإسراء:65]".