الأحد 21 / ربيع الأوّل / 1447 - 14 / سبتمبر 2025
قُلْ مَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ۝ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ۝ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [سورة ص:86-88].

يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ، وهذا النصح؛ أجراً تعطونيه من عرض الحياة الدنيا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي: وما أريد على ما أرسلني الله به، ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أمرت به أديته، ولا أزيد عليه، ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله ، والدار الآخرة.

قال سفيان الثوري عن الأعمش، ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود فقال: "يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله قال لنبيكم ﷺ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أخرجاه.

وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يعني: القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قاله ابن عباس - ا -".

في قوله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ يعني القرآن وما تضمنه من الدعوة إلى الإيمان، والتوحيد، فالرسل - عليهم الصلاة والسلام - كانوا يقولون لأقوامهم ذلك يعني أنهم لا يسألونهم على دعوتهم إلى الله أجراً، فهذه الآية تتضمن أصلين كبيرين من أصول الدعوة: أنها مجاناً بلا مقابل أيًّا كان هذا المقابل، قد لا يأخذ من الناس مباشرة يقول: أعظكم فتعطونني، لكن قد يأخذ من القنوات، قد يأخذ من الشريط، وتتحول المسألة إلى تجارة، تحصيل للأموال بسبب هذه الدعوة، وللأسف بعضهم يفتخر في قناة يتكلم يقول: كان دخله سبعة آلاف، والآن متوسط الدخل في الشهر مائة ألف، هذا ينزع القبول مما يقول، ولا يكون على كلامه نور، والقلوب تدفعه، وترفضه، ولا يحتمل الناس أن يسمعوا منه دقائق، مباشرة إذا رأوه غيروا القناة، وإذا رأوا كلاماً له مكتوباً أو نحو ذلك في موقع من المواقع، أو نحو ذلك مباشرة بحثوا عن غيره، ينطفئ نور الكلمة، بعدما يكون الإنسان له أقوال، وكلام يشرق، ويغرب، وله قبول، تحولت القضية إلى تجارة، وهنا تنطفئ نور الكلمة، لذلك أقول: مهمة الدعاة إلى الله ، مهمة المصلح أنه يقدم للناس الدعوة مجاناً، ما يأتيه مقابل منها، وإلا فإن ذلك مؤذن بالنهاية الحتمية، والله يغرس لهذا الدين غرساً يقوم بذلك الدعوة إلى الله، ونشر الخير وما إلى ذلك، ويذهب أولئك وينساهم الناس، فالإنسان عليه أن يختار إما ما عند الله، وإما ما عند الناس، فالدعوة مجاناً.

الأمر الثاني: التكلف وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ التكلف في كل شيء؛ ولهذا أخرج البخاري في الصحيح عن عمر : "نُهينا عن التكلف"[1]، وإذا جاءت هذه الصيغة "نُهينا" فإن الذي نهاهم هو النبي ﷺ، وهذا مطلق "نُهينا عن التكلف"، وما حدد شيئاً، والأصل حمل مثل هذا على عمومه؛ لأنه حذف فيه المقتضى فيحمل على أعم معانيه، التكلف في العلم ألا يقول الإنسان ما لا يعلم، ليس باللازم أن يجيب الإنسان على كل ما سُئل عنه، أو إذا سئل تورع فإنه يجيب بجواب ضبابي لا يأخذ منه السامع حقاً ولا باطلاً؛ لئلا يقول: لا أعرف، لا يجيب عن المسألة بخصوصها، لكن يتكلم بكلام يحوم حول السؤال، لكنه لم يجب، فلماذا لا يقول الإنسان: لا أعلم، وكذلك أيضاً التكلف حينما يتصنع؛ لأن أصل معنى التكلف التصنع، أن يأتي الشيء بكلفة، فليس بالضرورة أن الإنسان يكون له حضور في كل مناسبة، في كل حدث يحصل، أحياناً الإنسان لا تحضره النية، وأحياناً الإنسان ليس عنده ما يقوله، ما يضيفه، أحياناً قد تكون تعليقات شفوية وليست بكلام يكتب، في مجلس، في مذاكرة بين أهل علم، فيتحدثون في موضع يتشاورون فيه، فالكلام الذي سيقوله قاله فلان لا داعي لأن يسجل حضوراً، انتهى، خلاص ما عندي شيء، يكون الإنسان في مؤتمر أحياناً، أو ملتقى، ويتكلم الناس، ويعلقون على الموضوع الذي طرح، ليس عنده شيء، لا يتكلم، يعيد كلاماً قاله غيره، فهذا نُهي عن التكلف، وأحياناً يقال كلام لا معنى له، ولا قيمة له؛ فقط تسجيلاً للحضور، أني علقت في هذا الحدث، تكلمت في هذه المناسبة، علقت على كتابة فلان، فهذا كله من التكلف "نُهينا عن التكلف"، والإنسان إذا كانت لا تحضره نية لا يتكلم، إنسان ليس عنده إضافة جديد، ليس عنده شيء له قيمة، تحدث الناس عن هذا المعنى بما فيه الكفاية، لماذا كل واحد لا بد أن يتكلم؟!، يسعه السكوت، وأن يشتغل بذنوبه، ومن الخطأ أن يتوهم الإنسان أنه لا بد أن يكتب في كل شيء، ويشارك في كل شيء، وأن يكون حاضراً في كل مناسبة، وللأسف وسائل هذا الاتصال والتواصل بين الناس اليوم أصبحت تدفعهم دفعاً لأن يكتبوا في كل مناسبة، كل ما يقع من المناسبات، كل واحد لا بد أن يسجل حضوراً، ويكتب وما إلى ذلك، ومن عرف أن هذا سيعرض عليه، ويحاسب فيه على نيته، ويحاسب فيه على مضامينه أيضاً؛ فلا يكتب إلا ما يكون الجواب حاضراً، إذا حضرت الصحيفة، وقيل له: ما أردت بهذا؟ ما هذا الذي كتبت؟ الجواب حاضر، أمّا أن يهرف الإنسان في كل شيء ويثرثر في كل شيء فهذا غير صحيح إطلاقاً، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ هذا ينبغي أن يكون سمة لأهل العلم، والدعاة إلى الله .

  1. رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7293).