الخميس 24 / ذو القعدة / 1446 - 22 / مايو 2025
وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدْخِلْهُ نَارًا خَٰلِدًا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ۝ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة النساء:13-14] أي: هذه الفرائض، والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت، واحتياجهم إليه، وفقدهم له عند عدمه هي حدود الله فلا تعتدوها، ولا تجاوزوها، ولهذا قال: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ أي: فيها، فلم يُزد بعض الورثة، ولم يُنقص بعضاً بحيلة، ووسيلة، بل تركهم على حكم الله، وفريضته، وقسمته يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ۝ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ أي: لكونه غيّر ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله، وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة[1]، قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ... إلى قوله: ...عَذَابٌ مُّهِينٌ.
وروى أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه، عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: إن الرجل ليعمل، أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار[2]، وقال: قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ حتى بلغ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وهكذا رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. وسياق الإمام أحمد أتم، وأكمل.

الحديث بهذا السياق مداره على شهر بن حوشب، وفيه ضعف، لكن أصل الحديث في الخواتيم ثابت معروف، ونصه: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه، وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها...[3] إلى آخره.
  1. رواه ابن ماجه برقم (2704) (2/902)، وأحمد برقم (7728) (2/278)، وضعفه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (3382).
  2. رواه أبو داود برقم (2869) (3/72)، والترمذي برقم (2117) (4/431)، وضعفه الألباني في صحيح، وضعيف سنن أبي داود برقم (2867).
  3. رواه البخاري في كتاب الأنبياء – باب قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] برقم (3154) (3/1212)، ومسلم في كتاب القدر– باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته برقم (2643) (4/2036).

مرات الإستماع: 0

"وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14] الآية، تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار".

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14] ثم قال: يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [النساء:14] فذكر الخلود هنا مع المعصية يقول: "تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار" لسنا بحاجة إلى قول الأشعرية، وإنما يكفينا قول أهل السنة، والجماعة، فهذه الآية بالكفار وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:14] وهذا إذا أشكل على أحدٍ من الناس فهو في حقه من المتشابه، فيرجع إلى المحكمات، فقد دل المحكم الواضح إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] أن ما تحت الشرك سواءً كان من الكبائر، أو الصغائر فهو تحت المشيئة، فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

وكذلك النصوص الأخرى الدالة على الشفاعة، والمغفرة أيضًا، وأنه يخرج من النار من أهل الإيمان، والتوحيد من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فهؤلاء في المآل يخرجون، ولا يخلدون، وإنما يخلد فيها أهل الكفر، فذكر الخلود هنا يحمل على الكفار يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14] أو أن يكون المراد بالخلود البقاء لمدة طويلة، فذلك يقال له: خلودٌ عند العرب، وإن لم يكن المقصود به البقاء الأبدي السرمدي الذي يكون للكفار، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93] فإذا اعتبرت هذا مع قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] فالقتل دون الشرك، فهو داخل في عموم المشيئة، فهذه عقيدة أهل السنة، والجماعة.

فهذا إذا أريد بالعصيان الكفر، فالخلود يكون على بابه، الخلود البقاء الأبدي الذي لا انقطاع له، وإن أريد به ما دون الشرك من الكبائر، أو نحو ذلك، فيكون المراد بالخلود: طول المدة، وهذا ذكره جماعة، كالقرطبي[1] والطاهر بن عاشور[2] ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: يدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي[3] فلا يكون فيها شبهة بالخوارج القائلين: بكفر أهل المعاصي، فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته، وطاعة رسوله، ورتب دخول النار على معصيته، ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعةً تامة دخل الجنة بلا عذاب، ومن عصى الله، ورسوله معصيةً تامة، يعني: حتى في التوحيد، والإيمان، فيكون كافرًا، لم يؤمن أصلًا، فيدخل فيها الشرك، وما دونه، دخل النار، وخُلِّد فيها، ومن اجتمع فيه معصيةٌ، وطاعة كان فيه من موجب الثواب، والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة، والمعصية، وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها، وهذا على اعتقاد أهل السنة، والجماعة، فلا يخلد في النار أحدٌ من أهل التوحيد، وأهل المعاصي، والكبائر تحت المشيئة، فإن عذبوا فهم لا يخلدون في النار، فهذه الآية تفهم على ضوء النصوص الأخرى الواضحة، أما هؤلاء أهل البدع من المعتزلة، والخوارج فإنهم يأخذون مثل هذه النصوص، ويعمون عن النصوص الأخرى، الواردة في الباب، مما يوضح ذلك، ويبينه.

  1. تفسير القرطبي (1/241).
  2. التحرير، والتنوير (4/268).
  3. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 171).