روى البخاري عن البراء قال: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ [سورة النساء:176].
وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله - ا - قال: "دخل عَلَيّ رسول الله ﷺوأنا مريض لا أَعْقِل، فتوضأ، ثم صَبَّ عَلَيّ أو قال: صبوا عليه فَعَقَلْتُ فَقُلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ قال: فأنزل الله آية الفرائض" أخرجاه في الصحيحين ورواه الجماعة[1] وفي بعض الألفاظ: "فنزلت آية الميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ الآية [سورة النساء:176]"[2].
وكأن معنى الكلام - والله أعلم - يستفتونك عن الكلالة قل الله يفتيكم فيها فدل المذكور على المتروك.
وقد تقدم الكلام على الكلالة، واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه؛ ولهذا فسرها أكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد، ولا والد، ومن الناس من يقول: الكلالة من لا ولد له، كما دلت عليه هذه الآية إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [سورة النساء:176]".
أورد المؤلف - رحمه الله - ما أخرجه الإمام البخاري - رحمه الله - من حديث البراء : "آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت يستفتونك" فذكر آخر ما نزل من السور، وذكر آخر ما نزل من الآيات، والعلماء لهم كلام كثير في آخر ما نزل من القرآن، ووجه الجمع بين كثير من هذه الروايات إما بتقدير "مِن"، أو أن يخص ذلك في بعض الآيات، أو يسلك طريق الترجيح، فالأولان طريقان في الجمع.
وفي قوله: "آخر سورة نزلت براءة" يقال: لا شك أن براءة من آخر ما نزل فيما يتعلق بالقتال، بل هي آخر ما نزل في شأن القتال، لكن لم تنزل سورة براءة دفعة واحدة فقد نزل صدرها قبل حجة أبي بكر في السنة التاسعة للهجرة، حيث بعث بها النبي ﷺ مع عليٍّ في أثره، ونزل بعضها - كما هو معروف - في غزوة تبوك، فيمكن أن يقال: إن براءة هي آخر ما نزل في شأن القتال، وما يتعلق به.
وآية الكلالة هي آخر ما نزل في شأن المواريث، وإلا فالأرجح في آخر ما نزل من الآيات أنها الآيات الثلاث التي في سورة البقرة - آية الربا، وآية الدين، وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة البقرة:281] - فالأقرب أن هذه الآيات نزلت معاً، وما جاء من الروايات أن واحدة منها هي آخر ما نزل فذلك يصح، ويصدق عليه باعتبار أنها نزلت بهذه الجملة، والله تعالى أعلم.
وفي بعض الروايات نجد أن سورة النصر هي آخر ما نزل - أعني قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] إلى آخرها -، ويمكن أن يقال: إنها آخر سورة نزلت كاملة، وسورة المائدة هي آخر سورة نزلت في الأحكام أي في الحلال والحرام.
يقول تعالى: قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ الكلالة قال: "مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه؛ ولهذا فسرها أكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد، ولا والد" أي الذي لا يرثه إلا من يحيطون به كالإخوة والأخوات، فإن قيل: الله يقول: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [سورة النساء:176] ولم يقل: ولا والد، فكيف قيل: من لا ولد له ولا والد؟ فالجواب أن يقال: إن قوله سبحانه: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [سورة النساء:176] يدل على ذلك؛ لأنه لا يمكن أن ترث الأخت من أخيها مع وجود الوالد، فلما ورثت النصف عُلم أنه لا والد للمتوفى، والله تعالى أعلم.
وروى الإمام أحمد عن مَعْدان بن أبي طلحة قال: قال عمر بن الخطاب : ما سألتُ رسول الله ﷺ عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأُصْبُعِه في صدري وقال: يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء هكذا رواه مختصرًا، وقد أخرجه مسلم مطولاً أكثر من هذا[4].
ذكر الكلام على معناها، وبالله المستعان، وعليه التكلان:"
كلام ابن كثير هذا يقصد به تحليل الآيات حيث تكلم على الموضوع جملة، ويريد الآن أن يتحدث عن الآيات بالتحليل، وهذا يسمونه التفسير التحليلي.
بعض الناس في هذا الزمان غلب عليهم فهمٌ خاص لكلمة هلك مع أنهم يقرؤون في الرواية مثلاً في جمع القرآن "فلما هلك أبو بكر كانت الصحف عند عمر، فلما هلك عمر كانت الصحف عند حفصة" فلا غرابة في أن يقال: فلان هلك؛ لأن معناها: مات ليس إلا، وقد قال الله في خبر الرجل المؤمن من آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا [سورة غافر:34] فقوله: حَتَّى إِذَا هَلَكَ يعني حتى إذا مات، فلا إشكال، والله أعلم.
يقول - رحمه الله تعالى -: "ولو كان معها أب لم ترث شيئًا"، وهذا الكلام صحيح كما سبق.
وقوله تعالى: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ المراد بالأخت هنا الأخت الشقيقة، أو الأخت لأب، وأما الأخت لأم فإنها من أصحاب الفروض كما قال الله : وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ [سورة النساء:12] فهذه الآية في الإخوة لأم - كما سبق ذكر ذلك أول السورة -، ويفسر ذلك بعض القراءات الآحادية، وبعض أهل العلم ينقل الإجماع على أن قوله: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [سورة النساء:12] يعني الأخ أو الأخت من أم، فالإخوة من أم من أصحاب الفروض إذا انفرد الواحد منهم فله السدس، وإذا كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، أما الإخوة الأشقاء والإخوة لأب فإن حكمهم كما في هذه الآية وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [سورة النساء:176] فإن كان معها أخ فيقسم الميراث بينهما تعصيباً لا فرضاً.
والأخوات عصبة للبنات عند الجمهور، فإذا مات إنسان وليس له ولد، ولا والد؛ فللأخت النصف، والباقي لأوْلى رجلٍ ذكر، ولو مات وله بنت، وأخت؛ فالبنت لها النصف، والأخت لها النصف؛ لكن هذا النصف الذي يكون لها مع البنت ليس هو الفرض المذكور هنا في الآية، وإنما يكون لها ذلك بالتعصيب سيراً على قاعدة "الأخوات يعصبن مع البنات" ولذلك لو مات إنسان وعنده ابنتان وأخت فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت عصبة مع البنات، وإن كان لهذه الأخت أخ فإنه يقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.
والخلاصة أن هذه الآية تثبت الفرض للأخت إن لم يكن للميت والد ولا ولد - والولد يطلق على الذكر والأنثى -، فإن كان له بنت فللأخت الباقي على سبيل التعصيب.
مسألة: مات إنسان وعنده بنت، وأخت لأم، وأخت شقيقة؛ فكيف يقسم الميراث؟
الجواب: للبنت النصف، وللأخت لأم السدس فرضاً، وما بقي فللأخت الشقيقة تعصيباً، وذلك أنه يُبدأ بأصحاب الفروض أولاً.
وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس، وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتًا، وأختًا: إنه لا شيء للأخت؛ لقوله: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [سورة النساء:176] قال: فإذا ترك بنتًا فقد ترك ولدًا، فلا شيء للأخت".
هذا خلاف قول الجمهور، وهو كلام صحيح من جهة أنها لا شيء لها فرضاً؛ لكنها ترث من جهة التعصيب.
يقول تعالى: فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [سورة النساء:176] هذا النصف ترثه الأخت فرضاً بحيث لا يزيد، ولا ينقص، إلا إذا كن أخوات - أكثر من واحدة - ففي بعض الحالات يرثن الثلثين، وأما النصف الذي ترثه الأخت مع البنت فهذا ليس فرضاً وإنما هو ما بقي، فتارة يبقى النصف، وفي بعض الحالات يكون أقل من ذلك، فالقضية عند التعصيب لا تتقيد بالنصف.
وفي صحيح البخاري أيضاً عن هُزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وَأْتِ ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابنُ مسعود ، وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضَلَلْتُ إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي ﷺ النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم[6].
وقوله: وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ [سورة النساء:176] أي: والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة، وليس لها ولد أي ولا والد؛ لأنه لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئًا، فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج، أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - ا - أن رسول الله ﷺ قال: أَلْحِقُوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فَلأوْلَى رجلٍ ذَكَر[7]".
لو أن رجلاً مات وعنده بنت، وأخ، فللبنت النصف، والباقي للأخ، وإن شئت أن تعبر وتقول: والنصف الآخر للأخ فصحيح، لكن هذا النصف الذي للأخ ليس فرضاً، وهو كما قلنا في البنت تماماً، وكذلك لو ماتت وتركت أخاً من أم، وأخاً شقيقاًَ؛ فللأخ من الأم السدس، والأخ الشقيق له الباقي تعصيباً، والله أعلم.
مسألة:
إذا مات إنسان وترك أخاً شقيقاً، وأماً، وابنتين، فللبنتين الثلثان، وللأم السدس، وما بقي فللأخ الشقيق تعصيباً، وهكذا تكون القسمة أيضاً لو كان بدل الأخ الشقيق أخت شقيقة، أو أخ أو أخت لأب، وإذا اجتمع أصحاب جهة واحدة - كالإخوة الأشقاء، والإخوة لأب - فإنه يُنظر إلى الأقوى صلة بالميت.
وقوله: وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:176] هذا حكم العصبات من البنين، وبني البنين، والإخوة إذا اجتمع ذكورهم، وإناثهم؛ أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين.
وقوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أي: يفرض لكم فرائضه، ويحدُّ لكم حدوده، ويوضح لكم شرائعه.
وقوله: أَن تَضِلُّواْ أي: لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: هو عالم بعواقب الأمور، ومصالحها، وما فيها من الخير لعباده، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى.
وروى ابن جرير عن طارق بن شهاب قال: "أخذ عمر كَتِفًا وجمع أصحاب رسول ﷺ، ثم قال: "لأقضينَّ في الكلالة قضاء تحدَّث به النساء في خدورهن" فخرجت حينئذ حَيّة من البيت، فتفرقوا، فقال: "لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه" وهذا إسناد صحيح[8]".
قال: "أخذ عمر كَتِفًا" الكَتِف هو العظم العريض الذي كانوا يكتبون عليه، حيث كانوا يكتبون على الأكتاف، واللخاف، والعسب.
وقوله : "تحدَّث به النساء في خدورهن" يظهر منه أنه يريد أن يحكم حكماً يكون حديث الناس حتى تتحدث به النساء في خدورهن، والله أعلم.
قال ابن جرير: وقد رُوِي عن عمر أنه قال: "إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر"، وكان أبو بكر يقول: هو ما عدا الولد، والوالد.
وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة، والتابعين، والأئمة في قديم الزمان، وحديثه، وهو الذي يدل عليه القرآن، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك، ووضحه في قوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة النساء:176] - والله أعلم -".
- أخرجه البخاري في كتاب المرضى - باب وضوء العائد للمريض (5352) (ج 5 / ص 2148) ومسلم في كتاب الفرائض - باب ميراث الكلالة (1616) (ج 3 / ص 1234).
- صحيح مسلم في كتاب الفرائض - باب ميراث الكلالة (1616) (ج 3 / ص 1234).
- أخرجه البخاري في كتاب الأشربة - باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب (5266) (ج 5 / ص 2122) ومسلم في كتاب التفسير - باب في نزول تحريم الخمر (3032) (ج 4 / ص 3032).
- كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها (567) (ج 1 / ص 396) وفي كتاب الفرائض - باب ميراث الكلالة (1617) (ج 3 / ص 1236).
- أخرجه البخاري في كتاب الفرائض - باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة (6360) (ج 6 / ص 2479).
- أخرجه البخاري في كتاب الفرائض - باب ميراث ابنة ابن مع ابنة (6355) (ج 6 / ص 2477).
- أخرجه البخاري في كتاب الفرائض - باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج (6365) (ج 6 / ص 2480) ومسلم في كتاب الفرائض - باب ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر (1615) (ج 3 / ص 1233).
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (12786) (ج 6 / ص 245) من طريق جرير عن الأعمش مع اختلاف في لفظه ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره برقم (10882) (ج 9 / ص 439).
- أخرجه الحاكم في مستدركه (3186) (ج 2 / ص 332) وتعقبه الذهبي بقوله: "بل ما خرجا لمحمد شيئاً ولا أدرك عمر"، فالسند فيه انقطاع.