وبعضهم يقول: الجبت هو الساحر، وسواء قيل: إنه السحر، أو الساحر فلا إشكال؛ لأن بين السحر، والساحر تلازم، فالسحر إنما يفعله الساحر.
وبعضهم يقول: الجبت هو الساحر بلسان الحبشة، وهذا يحتاج إلى إثبات، والكلام في المعرّب في القرآن معروف أعني هل يوجد في القرآن شيء من غير لغة العرب، أم لا.
أصحاب النبي ﷺ عرب خُلَّص، وكلامهم يحتج به في اللغة، وهم في زمن الاحتجاج، ولم تتكدر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم، فذكروا في معاني الجبت السحر، والساحر، وغير ذلك، فجمعها الجوهري، ولهذا قال بعضهم: كل معبود، أو مطاع، أو متبع من دون الله في معصيته يقال له: الجبت، والطاغوت، ويدخل فيما قالوا كعب بن الأشرف فهو مطاع من دون الله ، ويدخل فيه الصنم، والسحر، والساحر، ويدخل فيه كل ما يعبد من دون الله عموماً، ويدخل فيه كذلك قول من قال: إن الجبت هو إبليس، وإن الطاغوت أولياؤه، فكل ما تجاوز حده من معبود، أو مطاع، أو نحو ذلك، فهو طاغوت إن كان راضياً بهذه العبادة، إذ المخلوق حده، وقدره العبودية، فإن تجاوزها، وصار معبوداً، أو مطاعاً يطاع من دون الله فهذا طاغوت سواء كان شخصاً، أو تشريعاً أو غير ذلك إذا كان مخالفاً لتشريع الله .
الإمام مالك يفسر الطاغوت بأنه كل ما يعبد من دون الله - وهذا تفسير شامل -، ويفسر الجبت بالشيطان، وبما يُعبد مما يزينه الشيطان، ويسوله لهم.
ولعل من أحسن ما قيل في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - أن الجبت، والطاغوت اسمان لكل ما يعبد، ويعظم، أو يتبع من دون الله إذا كان راضياً بذلك من إنسان، أو شيطان، أو غير ذلك، - والله أعلم -.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم، فأخبرونا عنا، وعن محمد، فقالوا: ما أنتم، وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العُناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير، وأهدى سبيلاً، فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا الآية [سورة النساء:51]، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس - ا -، وجماعة من السلف."
فهذه الآية نازلة في اليهود حينما ذهبوا إلى المشركين يحرضونهم على قتال النبي ﷺ بعد غزوة أحد فلما سألهم المشركون عن حالهم، وعن حال النبي ﷺ قالوا ما قالوا، وسجدوا لآلهة المشركين تأكيداً لهم أن ما هم عليه من عبادة الأصنام هو الحق، وأن ما جاء به النبي ﷺ هو الباطل.
وقولهم عن النبي ﷺ: إنه صنبور يعني لا عقب له؛ أي: إنه إذا ذهب انقطع ذكره، والصنبور يطلق أيضاً على النخلة المنفردة عن النخل، أو التي يدِقُّ أصلها يعني يكون دقيقاً توشك أن تنقلع، وينتهي أمرها، فهم يشبهون النبي ﷺ بذلك، فيقولون: هذا الرجل يوشك أن يذهب، ويضمحل ذكره، أو أنه منقطع منفرد وحده دون جماعتهم، فهو فرقهم حيث جاءهم بشيء لم يعرفوه، ولم يعرفه آباؤهم، وقطع أرحامهم، واتبعه سراق الحجيج..الخ.
هذا هو وصف النبي ﷺ ، وأصحابه عندهم لما جاء بالإسلام، وهكذا فالإنسان لا يستطيع أن يضع على أفواه الناس ما يلجمها، فهم يتكلمون، ولا زال أهل الباطل يتكلمون، ويصفون أهل الحق بشتى الأوصاف القبيحة، والله هو الموعد.