الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ نَصِيبًا مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا۟ هَٰٓؤُلَآءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ سَبِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51]، أما الجبت فقال محمد بن إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان."

وبعضهم يقول: الجبت هو الساحر، وسواء قيل: إنه السحر، أو الساحر فلا إشكال؛ لأن بين السحر، والساحر تلازم، فالسحر إنما يفعله الساحر.
وبعضهم يقول: الجبت هو الساحر بلسان الحبشة، وهذا يحتاج إلى إثبات، والكلام في المعرّب في القرآن معروف أعني هل يوجد في القرآن شيء من غير لغة العرب، أم لا.
"وقال العلامة أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه "الصحاح": "الجبت" كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك.

أصحاب النبي ﷺ عرب خُلَّص، وكلامهم يحتج به في اللغة، وهم في زمن الاحتجاج، ولم تتكدر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم، فذكروا في معاني الجبت السحر، والساحر، وغير ذلك، فجمعها الجوهري، ولهذا قال بعضهم: كل معبود، أو مطاع، أو متبع من دون الله في معصيته يقال له: الجبت، والطاغوت، ويدخل فيما قالوا كعب بن الأشرف فهو مطاع من دون الله ، ويدخل فيه الصنم، والسحر، والساحر، ويدخل فيه كل ما يعبد من دون الله  عموماً، ويدخل فيه كذلك قول من قال: إن الجبت هو إبليس، وإن الطاغوت أولياؤه، فكل ما تجاوز حده من معبود، أو مطاع، أو نحو ذلك، فهو طاغوت إن كان راضياً بهذه العبادة، إذ المخلوق حده، وقدره العبودية، فإن تجاوزها، وصار معبوداً، أو مطاعاً يطاع من دون الله فهذا طاغوت سواء كان شخصاً، أو تشريعاً أو غير ذلك إذا كان مخالفاً لتشريع الله
"وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله - ا - أنه سئل عن الطواغيت، فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين، وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم، وقال الإمام مالك: الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله ."

الإمام مالك يفسر الطاغوت بأنه كل ما يعبد من دون الله - وهذا تفسير شامل -، ويفسر الجبت بالشيطان، وبما يُعبد مما يزينه الشيطان، ويسوله لهم.
ولعل من أحسن ما قيل في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - أن الجبت، والطاغوت اسمان لكل ما يعبد، ويعظم، أو يتبع من دون الله إذا كان راضياً بذلك من إنسان، أو شيطان، أو غير ذلك، - والله أعلم -.
"وقوله: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [سورة النساء:51] أي: يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله بأيديهم.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم، فأخبرونا عنا، وعن محمد، فقالوا: ما أنتم، وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العُناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير، وأهدى سبيلاً، فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا الآية [سورة النساء:51]، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس - ا -، وجماعة من السلف."

فهذه الآية نازلة في اليهود حينما ذهبوا إلى المشركين يحرضونهم على قتال النبي ﷺ بعد غزوة أحد فلما سألهم المشركون عن حالهم، وعن حال النبي ﷺ قالوا ما قالوا، وسجدوا لآلهة المشركين تأكيداً لهم أن ما هم عليه من عبادة الأصنام هو الحق، وأن ما جاء به النبي ﷺ هو الباطل.
وقولهم عن النبي ﷺ: إنه صنبور يعني لا عقب له؛ أي: إنه إذا ذهب انقطع ذكره، والصنبور يطلق أيضاً على النخلة المنفردة عن النخل، أو التي يدِقُّ أصلها يعني يكون دقيقاً توشك أن تنقلع، وينتهي أمرها، فهم يشبهون النبي ﷺ بذلك، فيقولون: هذا الرجل يوشك أن يذهب، ويضمحل ذكره، أو أنه منقطع منفرد وحده دون جماعتهم، فهو فرقهم حيث جاءهم بشيء لم يعرفوه، ولم يعرفه آباؤهم، وقطع أرحامهم، واتبعه سراق الحجيج..الخ.
هذا هو وصف النبي ﷺ ، وأصحابه عندهم لما جاء بالإسلام، وهكذا فالإنسان لا يستطيع أن يضع على أفواه الناس ما يلجمها، فهم يتكلمون، ولا زال أهل الباطل يتكلمون، ويصفون أهل الحق بشتى الأوصاف القبيحة، والله هو الموعد.

مرات الإستماع: 0

"يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ قال ابن عباس: الجبت هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف[1] وقال عمر بن الخطاب: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان[2] وقيل الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر، وبالجملة هما كل ما عبد، وأطيع من دون الله". 

يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ الجبت: يستعمل في كل باطل، فيشمل ما ذكر من الأقوال، وذكر الجوهري أنه أيضًا يطلق على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك، هذا من حيث اللغة، فيؤيد أنه يطلق على هذه المذكورات في تفسيره، فكلها من قبيل الجبت، وبعضهم يقول: إن إطلاقه على الساحر، هذا في لغة الحبشة، والواقع أن مثل هذا لا دليل عليه أن يقال بأن هذا بلغة كذا، والمعرب، يعني الكلمات الأعجمية التي يقال إنها موجودة في القرآن من الأسماء فيها الخلاف المعروف، وذكرناه في بعض المناسبات، هل يوجد معرب في القرآن، وذكرنا قول ابن جرير  بأن أصلها عربية، أولى من دعوى أنها أعجمية، والله يقول: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195].

وذكرنا الأنواع الثلاثة في هذا الباب، يعني ما كان من قبيل الأسماء؛ فهو موجود في القرآن، وأكثر الأسماء الموجودة في القرآن غير عربية، وهذا لا إشكال فيه، النوع الثاني: وهو التراكيب، يعني كلام مركب أعجمي، هذا بالإجماع لا يوجد في القرآن. 

النوع الثالث: هو الذي فيه الخلاف، وهو المنكر مثل: (إستبرق)، و( مشكاة)، ونحو ذلك، فهذا فيه خلاف معروف بين أهل العلم.

فهنا الجبت، هل هذا اسم أعجمي؟ حبشية كما يقولون بعضهم، وبعضهم يقول: الجبت، هو إبليس، والطاغوت، هم أولياؤه، وعلى كل حال تفسيره في معنى أعم، أنه يقال للباطل، كل باطل، فيدخل فيه ما ذكر، كأنه - والله أعلم - أقرب.

فهنا قال الجبت "قال ابن عباس: الجبت هو حيي بن أخطب" لكنه لا يصح عن ابن عباس - ا - "والطاغوت كعب بن الأشرف"، هذا يمكن أن يقال على سبيل التمثيل، لكنه لا يختص بذلك.

"وقال عمر بن الخطاب: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان" يعني: باعتبار أن الطاغوت: هو كل ما عبد من دون الله وهو راض بذلك.

"وقيل الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر" لكن قول ابن جرير، وهنا قول ابن جزي بأنه: كل ما عبد، وأطيع من دون الله تعالى.

قال هنا، والطاغوت، جاء عن جابر  الطاغوت؛ أنهم كهان، كانت تنزل عليهم الشياطين[3] وجاء عن مجاهد: الشيطان في صورة إنسان[4] يتحاكمون إليه (يعني الكهنة)، وهو صاحب أمرهم.

وفسره الإمام مالك - رحمه الله -: بأنه كل ما يعبد من دون الله وأن الجبت هو الشيطان[5].

وعلى كل حال ابن جرير يقول: هما اسمان لكل معظم، من دون الله - تبارك وتعالى - بعبادة، أو طاعة، أو خضوع، كائن ما كان من حجر، أو إنسان، أو شيطان[6].

الطاغوت عل كل حال يمكن أن يقال: هو كل ذي طغيان على الله - تبارك وتعالى - فيدخل فيه من عبد من دون الله، وهو راض، وكذا من أطيع في معصيته، فهو مشتق من الطغيان، الذي هو الظلم، والغي، ونحو ذلك - والله أعلم -.

"وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية: سببها أن حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وفي النسخة الخطية: [أو كعب بن الأشرف]، أو غيرهما من اليهود، قالوا لكفار قريش: أنتم أهدى سبيلًا من محمد، وأصحابه."

هذا جاء عن ابن عباس - ا - في سبب النزول، في القصة المعروفة لما ذهبوا إلى مكة يحرضونهم (بعد أُحد) على قتال النبي ﷺ واستئصاله، فسألهم المشركون، قالوا: أنتم أهل كتاب، فما تقولون في هذا الصنبور، المنبتر، نحن أهدى، أم هو؟ وذكروا مآثرهم من سقاية الحجيج، وإطعامهم، ونحو ذلك، فقالوا: بل أنتم أهدى منهم، وسجدوا لأصنام المشركين تأكيدًا لهذا المعنى؛ فنزلت الآية[7].

لكن هذه الرواية لا تصح من جهة الإسناد، لا يصح أن هذا سبب النزول، لكن من سياق الآية يدل على أنه وقع منهم ذلك بلا شك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51].

واليهود هم أهل سحر كما هو معروف، وكثير فيهم، ولا يختص هذا بعامتهم، بل للأسف هو في كبرائهم، ومقدميهم، وكذلك أيضًا في عامتهم، كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101] تركوا  الكتاب المنزل، واستعاضوا عنه بالسحر، تركوا أشرف الأشياء واتبعوا أسوء الأشياء وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102] - والله المستعان -.

  1. تفسير الطبري (8/464)
  2.  المصدر السابق.
  3.  المصدر السابق (5/418) .
  4.  المصدر السابق (8/462).
  5.  تفسير ابن كثير (2/334).
  6.  تفسير الطبري (8/465).
  7. تالمصدر السابق (8/466).