الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَإِذًا لَّءَاتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْرًا عَظِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ۝ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ۝ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا [سورة النساء:66-70].
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه - تبارك، وتعالى - بما لم يكن لو كان فكيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ الآية [سورة النساء:66].
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ [سورة النساء:66] أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، وتركوا ما ينهون عنه لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ أي: من مخالفة الأمر، وارتكاب النهي وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66]."

فقد ذكر الله صفة أولئك المخالفين لأمر الله ، وأمر نبيه ﷺ فقال: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً [سورة النساء:81] ثم رغَّب في طاعته، وطاعة رسوله ﷺ فقال: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ الآية [سورة النساء:69] ثم قال بعد ذلك: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [سورة النساء:66] فهل المراد بهذه الآية أن كل الناس لن يفعلوا ذلك إلا قليل منهم أم المراد بها أولئك الذين ذكر صفتهم؟
السياق في هؤلاء الذين ذكر صفتهم، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - مشى على أنه في جميع الناس، أي: لو أنا كتبنا على الناس جميعاً قتل النفوس ما فعلوه إلا قليل منهم، والذي قد يؤيد ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أنها في عموم الناس، أي أن هؤلاء ما طلب منهم هذا أصلاً، ومع ذلك كانوا إذا خرجوا من عنده بيَّت طائفة منهم غير الذي يقول، فكيف لو كتب عليهم قتل النفوس؟ إلا إذا قيل: إن المراد بالقليل في قوله: مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [سورة النساء:66] أنه بمنزلة العدم، وفي كلام العرب، وأشعارهم يعبرون بذلك، ولا يريدون حقيقة معناه، تقول: مررت بأرض قليل بها الكُرَّاث، يعني أنه معدوم، فهذا سمع في كلام العرب، وقد يحمل عليه عدد من الآيات التي ورد فيها لفظ القلة، منها قوله تعالى: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:46] فالمعنى أنهم لا يؤمنون أصلاً، ومنها قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] يعني أنهم لا يأتون البأس، فالآية تحتمل معنىً آخر، وهو حقيقة القلة، والخلاصة أنه إذا حمل قوله: مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [سورة النساء:66] على أن المعنى لم يفعله أحد فيمكن أن تكون هذه الآية في الذين ذكر الله صفتهم بقوله: بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ يعني لم يفعله أحد منهم مطلقاً.
يقول الحافظ ابن كثير في قوله تعالى:  وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ "لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر" معناه أننا لو أمرناهم بالأمور المحرمة ما فعلوها؛ لأنهم جبلوا على المخالفة، قول ابن كثير هذا يظهر أنه غير مراد هنا، بل المعنى - والله أعلم - أن الله يخبر عن هؤلاء الناس عموماً، أو عن هؤلاء الذين ذكر صفتهم أنه لو كتب عليهم التكاليف الشاقَّة من قتل النفوس، أو الخروج من الأوطان ما فعلوه إلا قليل منهم، ويؤيد هذا المعنى قوله بعد ذلك: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66] فهذا خبر عنهم أنهم لا يستجيبون لأوامر الله، وتكاليفه الشاقة، وهذا المعنى هو الذي مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وهو الأقرب، - والله تعالى أعلم -.

"لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [سورة النساء:66] أي: من مخالفة الأمر، وارتكاب النهي وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66] قال السدي: أي: وأشدَّ تصديقاً.
وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا [سورة النساء:67] أي: من عندنا أَجْراً عَظِيمًا يعني: الجنة.

وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [سورة النساء:68] أي: في الدنيا، والآخرة".

قول السدي في قوله تعالى: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [سورة النساء:66] أي: وأشدَّ تصديقا" هذا المعنى لا يبعد في تفسير الآية، ولا يعارض ما قيل فيها من المعاني التي ذكرها السلف فقد قال الله  عن المنفقين في سبيله وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ [سورة البقرة:265]، وقد سبق الكلام عليها أنها تحتمل عدة معانٍ، ومن جملة المعاني التي تحتملها أن ذلك ينعكس أثره عليهم بالثبات، ومن معانيها أيضاً أن الإنسان تنازعه نفسه عند إخراج المال بمحبته له فهو يجاهدها، ويحملها على الإنفاق، والبذل، وما أشبه ذلك.
وعلى كل حال إذا فعل الإنسان ما أمره الله  به فإن ذلك يكون من دواعي ثباته، ولزومه الصراط المستقيم، وانتفاء التردد، والشك من قلبه فيكون بذلك مؤمناً؛ لأن الإيمان قول، وعمل.
وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى:وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [سورة النساء:68] أي: في الدنيا، والآخرة" الهداية في الدنيا هي هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، والهداية في الآخرة هي كما قال الله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4-5]، ومعنى ذلك - على القول الراجح في تفسير تلك الآية - أن الله  يهديهم في الآخرة إلى الصراط، ويهديهم على الصراط، ويهديهم عند الحساب، ويهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، فكل هذه الهدايات تكون في الآخرة، وهناك هدايات أخرى تكون  لغير الشهداء؛ لأن الشهيد يأمن من الفتَّان، لكن غيره بحاجة إلى هداية عند سؤال الملكين.