قوله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [سورة النساء:69] الصديقين هذه صيغة مبالغة تدل على كمال الاتصاف بهذه الصفة التي هي الصدق، فالصدّيق هو الذي كمل تصديقه، ولذلك قيل لأبي بكر الصدّيق؛ لكمال تصديقه فقد كان كثير التصديق، وكذلك يقال لمن كمل صدقه حتى عرف بذلك: إنه صدِّيق، وفي الحديث: ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً[1] فهذه صيغة مبالغة تدل على كمال الاتصاف بهذه الصفة كما يقال لمن اكتمل احترافه حرِّيف.
وروى البخاري عن عائشة - ا - قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من نبي يمرضُ إلا خيِِّر بين الدنيا، والآخرة، وكان في شكواه التي قبض فيها فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69]، فعلمت أنه خُيِّر"، وكذا رواه مسلم[2]، وهذا معنى قوله ﷺ في الحديث الآخر: اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم قضى - عليه أفضل الصلاة، والتسليم[3].
روى ابن جرير عن سعيد بن جُبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ، وهو محزون، فقال له النبي ﷺ: يا فلان، ما لي أراك محزونًا؟ قال: يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك، ونروح ننظر إلى، وجهك، ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي ﷺ شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ الآية [سورة النساء:69] فبعث النبي ﷺ فبشره، وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندًا[4].
وقد روي مرفوعاً من وجه آخر، ورواه أبو بكر بن مردويه عن عائشة - ا - قالت: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي، وموتك، وعرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رفعتَ مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي ﷺ حتى نزلت عليه: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: صفة الجنة، ثم قال: لا أرى بإسناده بأساً، - والله أعلم -.
هذه الرواية قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: رجالها موثقون، والرواية التي قبلها هي من قبيل المرسل عن سعيد بن جبير، وقد أشار الحافظ ابن كثير - رحمه الله - إلى جملة من المراسيل الواردة في هذا المعنى، وقد جاءت روايات أخرى مرفوعة غير ما ذكر، ومعلوم أن المرسل من قبيل الضعيف لكن إذا تعددت المراسيل، أو جاءت من وجه آخر مرفوعةً فإنها تصحح بهذا، وعلى كل حال مثل هذا المرسل عن سعيد بن جبير جاءت مراسيل متعددة بنحوه، وجاءت مرفوعةً من غير، وجه، ولذلك يمكن أن يصحح بهذا، أو يحسن إسناده، والروايات في هذا أكثر مما ذكرها الحافظ ابن كثير، لكنها كلها تدور على هذا المعنى.
أورد هذه الرواية استشهاداً بها على قوله تعالى: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، وفي هذا الحديث بيان كيف يكون الإنسان مع النبيين حيث فيه مثال على أن مما يوصل به إلى هذه المراتب ما قاله ﷺ: أَعني على نفسك بكثرة السجود.
سبب نزول هذه الآية:
إذا أردنا أن نستخرج سبب النزول من هذه الروايات المتعددة فإننا سنقتصر على الصحيح منها، والصريح دون غيره، ولذلك يمكن أن نقول: إن سبب النزول أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ، أو سأل رجل النبي ﷺ فكل هذه الروايات لا منافاة بينها سواء كانت من قبيل المراسيل كمرسل سعيد، أو غيره، أو حديث عائشة، فكل ذلك لا منافاة بينه، فتكون الآية نازلة على سبب هو أن النبي ﷺ سئل - عما سبق ذكره - فنزلت هذه الآية لبيان ذلك.
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح، والمسانيد، وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ سئل عن الرجل يحب القوم، ولمّا يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب[7] قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث[8].
وفي رواية عن أنس أنه قال: إني أحب رسول الله ﷺ، وأحب أبا بكر، وعمر - ا -، وأرجو أن يبعثني الله معهم، وإن لم أعمل كعملهم[9].
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607) (ج 4 / ص 2012).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء (4310) (ج 4 / ص 1675) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل عائشة - ا - (2444) (ج 4 / ص 1893).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب مرض النبي ﷺ ووفاته (4174) (ج 4 / ص 1613).
- حديث مرسل أخرجه الطبري في تفسيره من مراسيل سعيد بن جبير (ج 8 / ص 534) وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة من مرسل الشعبي (1380) (ج 2 / ص 131) وهو صحيح، انظر كتاب تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن (ص 90).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب فضل السجود والحث عليه (488) (ج 1 / ص 353).
- هذا الحديث موجود في كتاب اسمه الأحاديث الساقطة من مسند الإمام أحمد بن حنبل برقم (24299) (ص 23) وقد قال صاحب كتاب مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني بإسنادين ورجال أحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد (ج 8 / ص 67).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب علامة الحب في الله (5818) (ج 5 / ص 2283) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب المرء مع من أحب (2640) (ج 4 / ص 2034).
- كلام أنس ثابت من رواية أخرى أخرجها البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي (3485) (ج 3 / ص 1349) والترمذي في كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء أن المرء مع من أحب (2385) (ج 4 / ص 595) وأحمد (12738) (ج 3 / ص 168).
- رواية البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي (3485) (ج 3 / ص 1349) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب المرء مع من أحب (2639) (ج 4 / ص 2032).