الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُو۟لَٰٓئِكَ رَفِيقًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69] أي: من عمل بما أمره الله، ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه، ورسوله فإن الله يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقاً للأنبياء، ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم، وعلانيتهم."

قوله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [سورة النساء:69] الصديقين هذه صيغة مبالغة تدل على كمال الاتصاف بهذه الصفة التي هي الصدق، فالصدّيق هو الذي كمل تصديقه، ولذلك قيل لأبي بكر الصدّيق؛ لكمال تصديقه فقد كان كثير التصديق، وكذلك يقال لمن كمل صدقه حتى عرف بذلك: إنه صدِّيق، وفي الحديث: ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً[1] فهذه صيغة مبالغة تدل على كمال الاتصاف بهذه الصفة كما يقال لمن اكتمل احترافه حرِّيف.
"ثم أثنى عليهم تعالى فقال: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69].
وروى البخاري عن عائشة - ا - قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من نبي يمرضُ إلا خيِِّر بين الدنيا، والآخرة، وكان في شكواه التي قبض فيها فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69]، فعلمت أنه خُيِّر"، وكذا رواه مسلم[2]، وهذا معنى قوله ﷺ في الحديث الآخر: اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم قضى - عليه أفضل الصلاة، والتسليم[3].
روى ابن جرير عن سعيد بن جُبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ، وهو محزون، فقال له النبي ﷺ: يا فلان، ما لي أراك محزونًا؟ قال: يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك، ونروح ننظر إلى، وجهك، ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي ﷺ شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ الآية [سورة النساء:69] فبعث النبي ﷺ فبشره، وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندًا[4].
وقد روي مرفوعاً من وجه آخر، ورواه أبو بكر بن مردويه عن عائشة - ا - قالت: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي، وموتك، وعرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رفعتَ مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي ﷺ حتى نزلت عليه: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: صفة الجنة، ثم قال: لا أرى بإسناده بأساً، - والله أعلم -.

هذه الرواية قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: رجالها موثقون، والرواية التي قبلها هي من قبيل المرسل عن سعيد بن جبير، وقد أشار الحافظ ابن كثير - رحمه الله - إلى جملة من المراسيل الواردة في هذا المعنى، وقد جاءت روايات أخرى مرفوعة غير ما ذكر، ومعلوم أن المرسل من قبيل الضعيف لكن إذا تعددت المراسيل، أو جاءت من وجه آخر مرفوعةً فإنها تصحح بهذا، وعلى كل حال مثل هذا المرسل عن سعيد بن جبير جاءت مراسيل متعددة بنحوه، وجاءت مرفوعةً من غير، وجه، ولذلك يمكن أن يصحح بهذا، أو يحسن إسناده، والروايات في هذا أكثر مما ذكرها الحافظ ابن كثير، لكنها كلها تدور على هذا المعنى.
"وثبت في صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي ﷺ فأتيته بوضوئه، وحاجته، فقال لي: سل فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غَيْرَ ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فَأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود[5]."

أورد هذه الرواية استشهاداً بها على قوله تعالى: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، وفي هذا الحديث بيان كيف يكون الإنسان مع النبيين حيث فيه مثال على أن مما يوصل به إلى هذه المراتب ما قاله    ﷺ: أَعني على نفسك بكثرة السجود.
سبب نزول هذه الآية:
إذا أردنا أن نستخرج سبب النزول من هذه الروايات المتعددة فإننا سنقتصر على الصحيح منها، والصريح دون غيره، ولذلك يمكن أن نقول: إن سبب النزول أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ، أو سأل رجل النبي ﷺ فكل هذه الروايات لا منافاة بينها سواء كانت من قبيل المراسيل كمرسل سعيد، أو غيره، أو حديث عائشة، فكل ذلك لا منافاة بينه، فتكون الآية نازلة على سبب هو أن النبي ﷺ سئل - عما سبق ذكره - فنزلت هذه الآية لبيان ذلك.
"وروى الإمام أحمد عن عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِيّ قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله ﷺ: من مات على هذا كان مع النبيين، والصديقين، والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه تفرد به أحمد[6].
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح، والمسانيد، وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ سئل عن الرجل يحب القوم، ولمّا يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب[7] قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث[8].
وفي رواية عن أنس أنه قال: إني أحب رسول الله ﷺ، وأحب أبا بكر، وعمر - ا -، وأرجو أن يبعثني الله معهم، وإن لم أعمل كعملهم[9].
  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607) (ج 4 / ص 2012).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء (4310) (ج 4 / ص 1675) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل عائشة - ا - (2444) (ج 4 / ص 1893).
  3. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب مرض النبي ﷺ ووفاته (4174) (ج 4 / ص 1613).
  4. حديث مرسل أخرجه الطبري في تفسيره من مراسيل سعيد بن جبير (ج 8 / ص 534) وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة من مرسل الشعبي (1380) (ج 2 / ص 131) وهو صحيح، انظر كتاب  تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن (ص 90).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة -  باب فضل السجود والحث عليه (488) (ج 1 / ص 353).
  6. هذا الحديث موجود في كتاب اسمه الأحاديث الساقطة من مسند الإمام أحمد بن حنبل برقم (24299) (ص 23) وقد قال صاحب كتاب مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني بإسنادين ورجال أحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد (ج 8 / ص 67).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب علامة الحب في الله (5818) (ج 5 / ص 2283) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب    - باب المرء مع من أحب (2640) (ج 4 / ص 2034).
  8. كلام أنس ثابت من رواية أخرى أخرجها البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي (3485) (ج 3 / ص 1349) والترمذي في كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء أن المرء مع من أحب (2385) (ج 4 / ص 595) وأحمد (12738) (ج 3 / ص 168).
  9. رواية البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي  (3485) (ج 3 / ص 1349) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب المرء مع من أحب (2639) (ج 4 / ص 2032).

مرات الإستماع: 0

"فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] ثواب على الطاعة، أي: هم معهم في الجنة، وهذه الآية مفسرة لقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] والصدّيق فعّيلٌ من الصدق، ومن التصديق [في النسخة الخطية: أو من التصديق] والمراد به المبالغة، والصدّيقون أرفع الناس درجةً بعد الأنبياء، والشهداء المقتولون في سبيل الله، ومن جرى مجراهم من سائر الشهداء، كالغريق، وصاحب الهدم، حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة".

قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] جاء في سبب النزول عن عائشة - ا - قالت: "جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر، حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك: عرفت أنك إذا دخلت الجنة: رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة: خشيت ألا أراك، فلم يرد النبي ﷺ شيئًا، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]".

هذا أخرجه الطبراني في الأوسط[1] وأبو نعيم في الحلية[2] ووثق رجاله ابن حجر، وصححه لغيره الشيخ أحمد شاكر، وذكره الشيخ ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة[3].

فإذا صح مثل هذا يكون هو سبب نزول هذه الآية: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني: في الجنة.

يقول: "وهي مفسرة لقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]" وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، فالذين أنعم الله عليهم هم هؤلاء الذين ذكر الله.

يقول: "والصديق فعيلٌ من الصدق، ومن التصديق" هذا أحسن من أن يقال: أو من التصديق، مع أن ذلك يحتمل، لكن الجمع بين هذا وهذا هو الأولى والأكمل في معناه -والله تعالى أعلم -.

فالصديق بعضهم يقول: هو الذي يصدق قوله بفعله، أو أنه صَدَقَ بقوله، واعتقاده، وحقق صدقه بفعله، أو من كَمُلَ في صدقه وتصديقه، وهذا هو الأحسن - والله أعلم - ولذلك قلت هنا: "فعيلٌ من الصدق ومن التصديق" يعني أنه كمل في صدقه وفي تصديقه، فيكون صادقًا بأقواله، وأفعاله، وأحواله كلها، وكذلك أيضًا كَمُلَ في تصديقه، فأبو بكر  كان إذا بلغه عن النبي ﷺ شيء قال: صدق، وفي قصة الإسراء، والمعراج لما أجلب المشركون وأرجفوا، وتراجع بعض من آمن بمكة، حينئذٍ لما جاءوا إلى أبي بكر قالوا: أما سمعت ما يقول صاحبك؟ ظنًّا منهم أن ذلك سيرده عن إيمانه، فقال: إن كان قال فقد صدق، يقول: أنا أصدقه في خبر السماء، يأتيه الوحي صباح مساء، ولا أصدقه في الإسراء إلى بيت المقدس؟![4] يعني أصدقه فيما هو أعظم من هذا. 

وبعضهم يقول: إنه يقال لمن كثر منه الصدق، فهي صيغة مبالغة، أي كثير الصدق، وبعضهم يقول: يقال ذلك لمن لم يكذب قط، أو من لا يتأتى منه الكذب، لكونه قد اعتاد الصدق، فكل هذه المعاني تجمع وصحيحة، فهو من كمل في صدقه، وتصديقه، وإذا كان كمل يكون صادقًا في قوله، وفعله، واعتقاده، وصدق قوله بفعله، وكذلك أيضًا كثر منه الصدق، لم يكذب قط، لا يتأتى منه الكذب؛ لتعوده الصدق، هذا هو الصديق.

فالصديق لا يقال لمن يكذب في حديث الناس، ولا يقال لضعيف الإيمان، ولا يقال لمن كان حاله على غير استقامة، يعني لم يصدق قوله بفعله، فلا يقال له: صديق، وإنما من اجتمعت فيه هذه الأوصاف: كمال الصدق، مع كمال التصديق، بالقول والفعل والحال، يعني أن تكون حاله الصدق فيما يكون عليه، ولا يكون مثلًا متخشعًا وهو يتصنع ذلك، فلا يكون صادقًا، ويُظهر ربما التواضع وليس كذلك، فحاله تصدق ما ينطوي عليه قلبه، فهذا تصديق الحال.

والتصديق بالفعل: أن يصدق بفعله قوله، الذي ربما يقوله، لكن لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2] وهذا عام، ومن ذلك الإيمان أن يصدقه بالعمل، ودعوى الإيمان، الذي أعلنه، وإلا الإيمان من العمل كما هو معلوم؛ ولذلك قال النبي ﷺ: الصدقة برهان[5] فهي برهان على صدق دعوى الإيمان.

يقول: "المراد به المبالغة، والصديقون أرفع الناس درجة بعد الأنبياء" من جهتين:

من جهة: أنه ذكره بعدهم من النبيين والصديقين.

الأمر الآخر: أن أبا بكر الصديق بعد النبي ﷺ يعني وزن النبي ﷺ بالأمة فرجح، ووزن بعد ذلك أبو بكر فرجح بالأمة، فهذا يمكن أن يؤخذ من هذا المعنى.

يقول: "والشهداء المقتولون في سبيل الله، ومن جرى مجراهم من سائر الشهداء، كالغريق إلى آخره، وذكر أنهم سبعة"، وذكر الحديث في الحاشية، وهو حديث صحيح: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد[6] يعني: تموت في حال الولادة، فهؤلاء الشهداء في أحكام الآخرة، وأما في ما يجري عليهم في الدنيا، فلا شك أن الذي لا يُغسل، واختلف في الصلاة عليه، ويكفن بثيابه هو شهيد المعركة، أما المبطون، والمطعون، وحوادث السيارات، باعتبار أنهم من قبيل الهدم، ونحو ذلك، فهؤلاء يُكفنون، ويُغسلون، ويُصلى عليهم، ويجري عليهم ما يجري على الموتى من المسلمين، لكن الذي في المعركة هو الذي له أحكام خاصة في الدنيا، فهؤلاء يشتركون في أحكام الآخرة، والشهداء في الآخرة ليسوا على مرتبة واحدة، بدليل النبي ﷺ قال: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله[7] فقوله: سيد الشهداء فدل على أن الشهداء يتفاوتوا في مراتبهم، ومنازلهم.

"وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] الإشارة إلى الأصناف الأربعة المذكورة، والرفيق يقع على الواحد والجماعة، كالخليط، وهو مفرد -وفي النسخة الخطية: أو هو مفرد بُيّن به الجنس- ومعنى الكلام: إخبارٌ واستدعاءٌ للطاعة التي ينال بها مرافقة هؤلاء".

هنا يقول: "الرفيق يقع على الواحد والجماعة، وهو مفرد بُين به الجنس".

أو هو مفرد في نسخة أخرى؟

هناك فرق بين أن يقال: الرفيق يقع على الواحد والجماعة، فلا يقال: إنه لفظ مفرد، وبين أن يقال: "أو هو مفرد بُين به الجنس" يعني اللفظ مفرد، قُصِدَ به الجنس، يعني هو جمعٌ من جهة المعنى، رفيق يعني رفقاء، بمعنى: أنه أُريد به الجنس، سواءً كان ذلك بالإضافة، أو بغير إضافة، كقوله: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31] فالطفل مفرد، أريد به هنا الجنس، هذا من غير إضافة، وبالإضافة أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] يعني: أصدقائكم لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ [الممتحنة:1] عدوي مفرد مضاف إلى معرفة، وكذلك عدوكم مفرد مضاف، فهذا يراد به معنى الجمع، يعني أعدائي وأعدائكم، فظاهر إنها لو كانت "أو هو مفرد بين به الجنس" معنى الكلام: إخبار للطاعة التي ينال بها، يعني حينما قال الله : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] إنما ذُكِر للترغيب بطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ.

  1. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/152-477) والمعجم الصغير (1/52، 53).
  2.  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/239).
  3.  سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/1044).
  4.  سيرة ابن هشام ت طه عبد الرؤوف سعد (2/33) والروض الأنف ت الوكيل (3/398).
  5. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء برقم: (223).
  6.  أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في فضل من مات في الطاعون برقم: (3111) وصححه الألباني. وورد بعضه في البخاري.
  7.  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4/238-4079) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/685-3675).