وَقَوْلُهُ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ أَيْ: يَغْفِرُ مَا سَلَفَ مِنَ الذَّنْبِ، وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وخَضَع لَدَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: شَدِيدُ الْعِقَابِ أَيْ: لِمَنْ تَمَرَّدَ وَطَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَعَتَا عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَبَغَى، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ [سورة الحجر:49-50] يَقْرِنُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ كَثِيرًا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِيَبْقَى الْعَبْدُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ.
هذا يستدل به من يقول: إن الإنسان في الحياة ينبغي أن يكون حاله على اعتدال واستواء فيما يتصل بالخوف والرجاء، فلا يغلب أحدهما على الآخر، فمن يقولون: ينبغي الاستواء يحتجون بمثل هذه النصوص.
فقوله - تبارك وتعالى -: تَنزِيلُ الْكِتَابِ تنزيل مصدر، تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ وقد مضى الكلام على هذا المعنى وأنه لم يَرد النزول أو الإخبار عن إنزال شيء أنه من الله إلا القرآن، وأما الباقي فإما أن يرد مطلقًا، وإما أن يرد مقيدًا بغيره، كالسماء والجبال والأنعام ونحو ذلك، وهذا مما ذكره الحافظ ابن القيم، وشيخ الإسلام يستدلون به على مسألة أن القرآن هو كلام الله، هذا أحد أنواع الأدلة، وكذلك أيضًا يُستدل به على مسألة العلو لله - تبارك وتعالى -، وأن القرآن تلقاه جبريل مباشرة من الله، ولم يكن بواسطة باعتبار أنه أخذه مثلًا من بيت العزة، أو أن جبريل تلقفه تلقفًا روحانيًا كما يقول بعض المتكلمين، أو أن جبريل فهم المعنى وعبر عنه، كل هذا باطل، قال: الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، "غافر الذنب وقابل التوب" التوب هذا مصدر من تاب يتوب توبة، وتوبًا، قابل التوب يعني توبة التائبين، وبعضهم يقول: إنه جمع توبة يعني أنه ليس بمصدر، وهنا غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فهذه أوصاف متتابعة، فعطفُ الأوصاف تارة يكون بالواو بذكر حروف العطف، وتارة بحذفها سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4].
| إلى الملِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام | وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحمْ |
فهنا ذَكر حرف العطف في بعضها وحذفه في البعض الآخر، والأصل أن العطف يقتضي المغايرة سواء كان ذلك باعتبار التغاير بين الذوات المتعددة، أو تغاير الصفات، وتعدد الصفات - يعني عطف الصفات المتغايرة - بمنزلة تعدد الذوات، نحن نقول بالنسبة لصفات الله : هي ملازمة لذاته - تبارك وتعالى - كما هو معروف ليست منفكة منفصلة عنها، لكن الكلام في اللغة: ينزَّل تعدد الصفات منزلة تعدد الذوات، فتأتي بالعطف، متعاطفة والموصوف واحد، فإذا كانت المباينة أكثر يعني بين الأوصاف كانت الواو أعلق وأولى بأن تذكر، كلما كان التباين أتم كان ذكر الواو آكد، فهنا إذا تأملت غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ "غافر الذنب وقابل التوب" فهنا ذكر الواو ولم يذكرها مع شديد العقاب مع أن هذا يختلف، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - تكلم على هذه المسألة كلاماً قيماً فقال - رحمه الله -: "فأتي بالواو في الوصفين الأوليْن وحذفها في الوصفين الآخرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يُظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمَن غفرَ الذنبَ قبلَ التوبَ فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران، ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه:
أحدهما: يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.
والثاني: يتعلق بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وهو التوبة، فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة، وحسّن العطفَ ههنا هذا التغايرُ الظاهر، وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن، ولهذا جاء العطف في قوله: هُوَ الأوَّلُ وَالآخر وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [سورة الحديد:3] وترك في قوله: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [سورة الحشر:23]، وقوله: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [سورة الحشر:23]، وأما: شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ فترك العطف بينهما لنكته بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول، وطوله لا ينافى شدة عقابه بل هما مجتمعان له، بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية، ولهذا فسرها النبي ﷺ بقوله: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء[1]، فأوليته أزليته، وآخريته أبديته"[2].
إذاً غافر الذنب وقابل التوب هما متقاربان فلئلا يُظن أن ذلك يرجع إلى معنى واحد جاءت الواو ليتبين أن هذه الأوصاف متغايرة، وكان الأمر لا يلتبس مع ما بعده شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ، مع شدة المباينة بين هذه الأوصاف، يقول: فتُركت الواو مع قوله ذي الطول باعتبار أن ذلك يجتمع له - -، فإن الطول بمعنى التفضل أو الفضل على العباد كما سيأتي، الإحسان إليهم مع ما ذكر من معناه أنه الغنى والسعة ونحو ذلك، فإن التفضل والإحسان إنما يكون عن الغنى والسعة، فالمعنيان متلازمان، يعني ما ذكره السلف في معنى الطَّوْل كما سيأتي، فهنا "شديد العقاب ذي الطول"، فهذا التفضل، وهذا شدة العقاب، فيقول: حذفت الواو من أجل تقرير أن ذلك يجتمع له - - مع ما بينهما من المفارقة، هذه المعاني التي تذكر هذه الدقائق في ذكر الواو ونحو ذلك هي اجتهادات واستنباطات تصيب وتخطئ، وأحيانًا يكون الكلام ليس بتلك الدرجة من الوضوح أو الجلاء، وقد لا يخلو من شيء من التكلف أحيانًا، فما ظهر من ذلك فلا بأس، وأحيانًا قد يذكر ما يستلطف ويوجد في مواضع أخرى ما يشكل عليه.
هو مما جاء بمعنى السعة والغنى في القرآن في غير هذا الموضع، وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [سورة النساء:25] يعني ليس عنده من الغنى والسعة والمال ما يتمكن به من دفع الأموال للحرائر، فيرخص له بنكاح الأمة.
وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، يعني المتفضل على عباده، ولا منافاة بين المعنيين؛ فإنه متفضل عن غنى وسعة.
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [سورة النحل:18] الآية، وقوله - جلت عظمته -: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي: لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره ولا رب سواه، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع والمآب فيجازي كل عامل بعمله، وهو سريع الحساب.
الله سريع الحساب يحاسبهم كنفس واحدة، وهذه الأوصاف التي ذكرها الله في صدر هذه السورة غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ هنا ذكر شدة عقابه - تبارك وتعالى - بين أوصاف تتصل بفضله ورحمته "غافر الذنب وقابل التوب"، والتي بعد "شديد العقاب" "ذي الطول" صاحب الفضل، فهذا كما قال الله - تبارك وتعالى -: إن رحمتي سبقت غضبي[3]، فشدة العذاب بين هذه الأوصاف من الرحمة والإحسان إلى الخلق والمغفرة وقبول التوبة.
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، برقم (5051)، والترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، برقم (3400)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله ﷺ، برقم (3831)، وأحمد في المسند، برقم (8960)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4424).
- بدائع الفوائد، لابن القيم (3/ 52-53).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ [سورة هود:7]، وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ [سورة التوبة:129]، برقم (7422).