الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
يَٰقَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا مَتَٰعٌ وَإِنَّ ٱلْءَاخِرَةَ هِىَ دَارُ ٱلْقَرَارِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ۝ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ۝ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة غافر:38-40].

يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغا وآثر الحياة الدنيا، ونسي الجبار الأعلى، فقال لهم: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، لا كما كذب فرعون في قوله: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، ثم زهّدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى ، فقال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، أي: الدار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن فيها إلى غيرها، بل إما نعيم وإما جحيم، ولهذا قال - جلت عظمته -: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، أي: واحدة مثلها، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ أي: لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله ثوابًا كثيرًا لا انقضاء له ولا نفاذ، والله تعالى الموفق للصواب.

قوله: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، هذا مضى في مواضع من كتاب الله - تبارك وتعالى - أن السيئة بمثلها، ومضى الجواب أيضًا عما قد يرِد على ذلك، وقد يستشكل كما في قوله - تبارك وتعالى -: يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنْكنَّ بفاحِشةٍ مبيِّنة يُضاعَفْ لَهَا العذابُ ضِعفيْن [سورة الأحزاب:30]، وقول الله - تبارك وتعالى -: إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [سورة الإسراء:75]، فهذا مضى الجواب عنه، وأن الأصل هو جزاء السيئة بواحدة، وأما ذلك فاستثناء.

وهنا قال: فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ قال: أي لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله ثوابًا كثيرًا لا انقضاء له ولا نفاذ، أيضًا مضى الكلام على هذا المعنى بغير حساب، قلنا: إن العطايا والهبات إذا كانت قليلة فإنها تكون معدودة محسوبة، فيعطى بالعد إذا كان قليلًا، يقال: أعطي - مثلًا - مائة درهم، عشرة آلاف درهم فيكون معدودًا، أما الكثير فكما جاء عن النبي ﷺ في ذكر الخليفة أو الذي يحثو المال ولا يعده فهذا للكثرة، والعرب تقول للعطاء الكثير الذي لا يكون محصورًا بعدد معين: فلان يعطي بغير حساب، يعني من غير أن يحسب، كما سأل العباس النبي ﷺ أن يعطيه من المال ليعوضه ما فدى به نفسه حينما أُسر في بدر، فالنبي ﷺ أمره أن يأخذ فكان يحثو من المال حتى عجز عن القيام والنهوض به، فطلب من النبي ﷺ أن يأمر رجلًا فيحمل معه، فامتنع النبي فوضع بعضه، فهذا بلا حساب.

فالله - تبارك وتعالى - يرزقهم في الجنة بغير حساب، يعني رزقًا كثيرًا، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، وبعضهم يقول: بغير حساب يعني لا تبعة لهم في هذا العطاء الذي يُعطَوْنه، كما يقول مقاتل: بغير حساب يعني لا يحاسبهم عليه، الإنسان كما قال الله في هذه الحياة الدنيا ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سورة التكاثر:8]، والنبي ﷺ حينما أكل من البسر ثم الشاة إلى آخره قال لأصحابه لأبي بكر وعمر ومن معه حينما أكلوا عند الأنصاري: لتُسألن عن هذا النعيم يوم القيامة[1]، فالإنسان يحاسب على هذه النعم، يحاسب عليها من المطعوم والملبوس والمركوب وغير ذلك، ويُعرَّف بنعم الله - تبارك وتعالى - عليه ماذا عمل بها؟ لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه[2].

هناك في الجنة لا حساب ولا تبعة، فعلى هذا المعنى الذي ذكره مقاتل أنهم لا تبعات عليهم في هذا الإنعام والعطاء والإفضال، وهذا معنى آخر غير الأول، والله أعلم.

  1. رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تحققا تاما واستحباب الاجتماع على الطعام، برقم (2038).
  2. رواه الطبراني في الكبير، برقم (11177)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7300).