الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى - فيما قصه من خطاب مؤمن آل فرعون لقومه: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، قوله: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أي: هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه، وكذلك يمكن أن يقال: إنه جمع لهم في ختم ذلك بين الترغيب والترهيب، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ الذي يأخذ المكذبين والظالمين والمجرمين والكافرين بعزته فيهلكهم ويعذبهم، فهذا يدل على جانب الأخذ والعذاب والترهيب، والغفار كثير الغفر فهذا يتصل بالترغيب فجمع لهم بين هذا وهذا، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - صحيح، فإن الله - تبارك وتعالى - يغفر حينما يغفر لا لعجز عن المؤاخذة، وإنما يغفر مع كونه متصفًا بالعزة، وفي القرآن مواضع من هذا، ومنه قول عيسى ﷺ: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118]، وقوله: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ هذا المعنى الأول الذي ذكره الحافظ ابن كثير قال: يقول: حقًا يعني أن لا جرم أي حقًا، وتكون لا نافية يعني لنفي ما ادعاه ورد ما زعمه هؤلاء الكفار المكذبون، وإذا كان "جرم" هذا فعلاً فيمكن أن يكون فاعله أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ... الآية فتكون الجملة هذه في محل رفع فاعل، أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ هنا يقول: حقًا، قال السدي وابن جرير: معنى لا جرم: حقًا، وقال الضحاك: لا جرم: لا كذب، وهذا من ناحية المعنى يرجع إلى الأول، فإنه إذا كان حقًا فمعناه لا كذب، من جهة المعنى، وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: بلى، إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد ليس له دعوة في الدنيا، ولا في الآخرة, يعني حقَّ ووجبَ بطلانُ دعوته.
وبعضهم يقول: إن معنى كونه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ يعني كما يقول ابن جرير - رحمه الله -: إنه جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، وبعضهم فسر ذلك بالشفاعة أي لا يشفع لعابديه كما يرجون ويؤملون حينما عبدوه، وبعضهم فسر ذلك بالاستجابة يعني ليس له استجابة دعوة تنفع، لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وهي معانٍ متقاربة، وبعضهم يقول: إن معنى ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة: يعني دعوة توجب الإلهية في الدنيا ولا في الآخرة كما يزعم هؤلاء، وهكذا ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا قال مجاهد: الوثن ليس له شيء، يعني ليس له استجابة ولا شفاعة ولا ينفع ولا يضر، وقال قتادة: يعني الوثن لا ينفع ولا يضر، قال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا كله بمعنى واحد، وهذا كقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ [سورة الأحقاف:5] مِن هنا فُسر بالاستجابة، وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [سورة الأحقاف:5]، إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [سورة فاطر:14]، فالحاصل أن هذه العبارات ترجع إلى هذا المعنى أنه لا ينفع داعيه ولا يضره وهو بمنأى عنه، إلا قول من قال: إن المراد ليس له دعوة من جهة ما ادعوه يعني توجب له الإلهية، لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ والمشهور هو الأول الذي تتابعت أقاويل السلف فمن بعدهم على تقريره بعبارات متنوعة.
وقوله: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ، أي: في الدار الآخرة فيجازي كلًّا بعمله، ولهذا قال: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ أي: خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله .
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، أي: خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله - تبارك وتعالى -، هذا قال به طائفة من السلف، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ يعني المشركين، ولا شك أن المشرك بالله - تبارك وتعالى - داخل في هذا، ولهذا قال بعضهم: إن المراد بالمسرفين من تجاوز الحد الذي حده الله - تبارك وتعالى - له، فهؤلاء أهل الإشراك تجاوزوا توحيده والإيمان به، وصاروا بهذه المثابة حيث صرفوا العبادة إلى غيره من الأنداد والأوثان، فهذا يقول به ابن سيرين وقتادة، وبعضهم يقول هذا ويزيد عليه فيقول: هم المشركون المتعدون لحدوده القتلة للنفوس التي حرم الله - تبارك وتعالى - كما يقول ابن جرير، حيث جمع هذه المعاني بعبارة واحدة؛ لأن من السلف من قال: إن المسرفين هم سفاكو الدماء، أي المسرفون في الدماء، القتل، إزهاق النفوس، وبعضهم يقول: الجبار هو الذي يكثر من القتل، وقول القبطي على أحد القولين: أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ [سورة القصص:19]، ولهذا قال بعضهم: مَن قتل نفسين فهو جبار أخداً من الآية، إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ قالوا: قتل رجلًا بالأمس، وهذا يقول: أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ فالذي يقتل نفسين يكون جبارًا، وعند التأمل قد يقال: إن هذا ليس بلازم - ليس الحديث عن هذا لكن الحديث يجر بعضه بعضًا - فإن المقالات التي في القرآن إذا لم يرد قبلها ولا في ثناياها ولا بعدها ما يدل على ردها فالأصل أنها صحيحة، هذا غالبًا.
ومن غير الغالب قوله - تبارك وتعالى - في سورة الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21]، اتخاذ المساجد على القبور محرم في شرائع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بدليل أن اللعن لحقهم، وصاروا شرار الخلق عند الله - تبارك وتعالى -، فهذا باطل - أي هذا القول - ولم يرد في الآية ما يدل على بطلانه، ولكن يقال: غالبًا، كعدد أصحاب الكهف، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [سورة الكهف:22]، وفي قولين قبله قال: رَجْمًا.
فهناك في قوله - تبارك وتعالى -: إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ من قتل نفسين يكون جبارًا هذا لا يلزم، وإنما هو من وُصف بالتجبر سواء قتل نفسين أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.
هنا في قوله - تبارك وتعالى -: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، هو موضع الحديث، قال: خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله ، وبعضهم يقول: المسرفون هنا هم المتكبرون الجبارون كما يقوله عكرمة -رحمه الله-، فالحاصل أن هذه الأقاويل بتفسيره بالمشركين أو بمعنى الإسراف في القتل أو تجاوز الحدود التي حدها الله - تبارك وتعالى - جمعها ابن جرير - رحمه الله -، فعد ذلك جميعًا من الإسراف، "وأن المسرفين هم أصحاب النار" من أعظم الإسراف صرف الشكر والعبادة لغير المنعم، صرفها لغير من خلق، هذا من أعظم الظلم والإسراف.
والمقصود هنا ليس الإسراف في المطاعم ونحو هذا، وإنما المقصود بالإسراف هنا الإسراف الذي يوجب الخلود في النار؛ لأنه قال: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ وإذا ذكر مثل هذا يعني أصحاب كذا، أصحاب النار فإن المقصود أهل الخلود فيها، والذي يوجب الخلود في النار هو الإشراك، ولهذا فسره هؤلاء من السلف بالإشراك، يعني قد يسأل بعضكم لماذا لا يقال: الإسراف هو التوسع في الملاذ من مطعوم ومشروب وما إلى ذلك كما هو معروف، وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً؟ [سورة الإسراء:26-27]، هذا لا يوجب الخلود في النار، ولما ذكر أصحاب النار فمعناه أهل الخلود ففسروه بالإشراك، وهكذا قول من قال: الإسراف هنا في القتل لما ورد من النصوص في التشديد في سفك الدماء وقتل النفوس التي يحرم قتلها، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [سورة النساء:93].