السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوٓا۟ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ أي: سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم، وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم.

قال هذا باعتبار أن عاقبة المكذبين والكافرين لا شك أنها عاقبة سيئة سواء كان ذلك بإدالة أهل الإيمان عليهم، أو بما قيضه الله من تسليط عدوهم عليهم، أو كان ذلك بتحول عافيته عنهم، فإن العاقبة لا تكون للكافرين والمكذبين، فقال لهم بهذا الاعتبار: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ باعتبار أن عاقبة التكذيب والكفر عاقبة وخيمة، يعني لا يقتضي أنه كان يعلم أنهم سيغرقون، وستكون نهايتهم هذه، لكن هو يعلم في الجملة أن العاقبة لا تكون لهؤلاء من أعداء الرسل - عليهم الصلاة والسلام.

قال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي: أتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، أي: هو بصير بهم - تعالى وتقدس - فيهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة والحكمة التامة، والقدر النافذ.

وأيضًا هو بصير بهم وبكفرهم وتكذيبهم وأعمالهم، فيأخذهم - تبارك وتعالى - ويجازيهم على هذا التكذيب والكفر، ولاحظ بعده أن الله قال: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [سورة غافر:45] والفاء هنا تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، هذا الذي يسميه الأصوليون بدلالة الإيماء والتنبيه، أنه يوجد ارتباط بين هذا وهذا، أن الذي بعدها مرتب على الذي قبلها، هو قال قبلها: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ يعني أتوكل عليه، وهو أمام فرعون الذي يتوقع منه البطش والتنكيل، فقال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، فكانت النتيجة فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا يعني أن الله نجاه من بطش فرعون ومن كيده فلم يصل إليه منه شيء؛ لأنه توكل على الله كما قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [سورة الطلاق:3]، فهذه نتيجة التوكل، فهذا مثال: هناك حكم عام وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، هذا أحد أفراد هذا الحكم العام مؤمن آل فرعون، قال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ "فوقاه الله" هكذا كانت النتيجة، هذا معنى "فهو حسبه"، فأهل الإيمان والدعاة إلى الله والمحتسبون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يكون هذا حالهم فيتوكلون عليه، وتكون لهم الكفاية، والحفظ والكلاءة فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا، ولذلك فإن الله يدفع عن هؤلاء الكثير مما لا يعلمون، ولو أن الإنسان بقي ينظر ويسمع ما يقال ويتتبع ما قد يصدر في حقه، أو يقال عنه حينما يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أو نحو ذلك لربما قعد عن هذا كله، واجتمعت عليه المخاوف، وظن أن كيد هؤلاء الذين لا يروقهم هذا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أنه واصل إليه، ولكن الله يدفع عنه الكثير وهو لا يشعر، فلا يلزم من هذا أنْ يعلم أمرًا معينًا من المكروه أنه يراد به أو نحو ذلك، فإن الله يدفع عن عبده أمورًا كثيرة، ولهذا ما على الإنسان إلا أن يتوكل على الله - تبارك وتعالى -، ولا يلتفت بعد ذلك إلى شيء آخر إذا كان عمله صحيحًا من كل وجه، وأيضًا في موضعه وفي محله اللائق به.

قال: وقوله - تبارك وتعالى -: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى ، وأما في الآخرة فبالجنة، وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحًا ومساءً إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.

حاق بمعنى أحاط بهم، وحل بهم، ونزل بهم، وهذا لا يقال إلا في المكروه، فلا يقال: حاق به فضل الله، حاقت به النعمة، وإنما يكون في المكروه حاق به العذاب، حاق به بأس الله ونكاله ونحو ذلك، حاق بآل فرعون يعني أحاط بهم، نزل بهم، هنا آل فرعون يدخل فيه فرعون، ويدخل فيه أيضًا أتباعه، فإن مثل هذا تارة يراد به الشخص المعين، وتارة يراد به المجموع، يعني هذا ومن معه، من هم على شاكلته من أتباعه وأهل دينه، أما إذا جاء معطوفًا فإنه لا يكون داخلًا فيه مثلما نقول: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، فآل محمد ﷺ هنا النبي غير داخل فيه، لكن فرعون يدخل في مثل هذا الموضع، هنا أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ؛ لأنه لا شك أنه داخل معهم؛ لأنه هو المقدم وهو السبب فيما حلّ بهم، كما قال الله : يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [سورة هود:98] فهذا الذي قادهم إلى هذه العاقبة السيئة، وكذلك "اللهم صلّ على آل أبي أوفى" هو وأهله، كما قالت: صلّ عليّ وعلى زوجي، فإن أهله يدخلون معه، رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [سورة هود:73] لكن غير هذا مما يكون مراداً به الشخص المعين سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [سورة الصافات:130] وقد مضى الكلام على هذا.

وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ هنا "سوء" صفة مضافة إلى الموصوف، يعني العذاب السيئ الذي يسوء صاحبه، قال: وهو الغرق في اليمّ ثم النقلة إلى الجحيم يعني جمع بين هذا وهذا باعتبار أنهم بعدما حصل لهم الغرق - فإن هذا الغرق هو عذاب - حل العذاب بهم بعده كما قال الله : أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] وهنا فسر بعذاب البرزخ قبل عذاب النار، والفاء تدل على التعقيب المباشر، فهنا لمّا حصل لهم هذا قبل يوم القيامة؛ لأنه بعده قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ إذاً الذي حل بهم قبل القيامة هو سوء العذاب، فيدخل فيه الغرق، ويدخل فيه عذاب البرزخ الذي ذكره الله أيضًا بقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا.

قال: ولهذا قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ أي: أشده ألمًا وأعظمه نكالًا، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ، وقد روى الإمام أحمد عن عائشة - ا - أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة - ا - إليها شيئًا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاكِ الله عذاب القبر، قالت - ا - فدخل رسول الله ﷺ عليّ فقلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال ﷺ: لا، من زعم ذلك؟ قالت: هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئًا من المعروف إلا قالت: وقاكِ الله عذاب القبر، قال ﷺ: كذبت يهود، وهم على الله أكذب، لا عذاب دون يوم القيامة[1]...

فهذه الجملة "لا عذاب دون يوم القيامة" ظاهرها العموم والإطلاق، لا عذاب يعني لا على المسلمين ولا على غير المسلمين.

قالت: ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملًا بثوبه محمرة عيناه، وهو ينادي بأعلى صوته: القبر كقطع الليل المظلم، أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا وضحكتم قليلًا، أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فإن عذاب القبر حق وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.

فيقال: فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ؟

الآية نازلة بمكة وهذه الحادثة التي ذكرتها عائشة - ا - مع اليهودية، وقول النبي ﷺ: لا عذاب دون يوم القيامة، هذا في المدينة، فكيف يستدل بهذه الآية المكية على إثبات عذاب القبر؟ وهذا دليل مشهور جداً يستدل به العلماء على إثبات عذاب القبر من القرآن، أوضح آية في هذا هي هذه الآية في عذاب القبر، أما الأحاديث فقد تواترت في هذا الباب، ولكن الكلام في القرآن هل دل على عذاب القبر أو لا؟ أوضح الآيات التي يُستدل بها هي هذه، لكن الآية مكية، والنبي ﷺ في المدينة نفى هذا، فما الجواب؟ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا ذكر أجوبة.

قال: والجواب أن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوًا وعشيًا في البرزخ.

الآن هذا الجواب الأول، أن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوًا وعشيًا في البرزخ.

قال: وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور، إذ قد يكون ذلك مختصًا بالروح، فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها.

إذاً الجواب الأول: أن الآية دلت على أن العذاب يكون قبل يوم القيامة في البرزخ على الأرواح، هي التي تعرض على النار، والذي أنكره النبي ﷺ على هذا الجواب هو عذاب القبر، وعذاب القبر يقع على الروح والجسد، فالنبي ﷺ أنكر هذا؛ لأن اليهودية كانت تقول: وقاكِ الله عذاب القبر، فنفى أن يكون في القبر عذاب، وغاية ما دل عليه القرآن أن الأرواح تعذب، هذا الجواب الأول، يعني إذاً ليس هو بعذاب القبر، فالأرواح لها أحوال وانتقال وأمور غيبية فتكون هي التي تعذب وتعرض على النار.

قال: وقد يقال - هذا الجواب الثاني -: إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب.

فهذه اليهودية كانت تقول: وقاكِ الله عذاب القبر، فأنكر النبي ﷺ هذا، وأخبر أن اليهود هم الذين يعذبون في قبورهم.

قال: ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عائشة - ا - أن رسول الله ﷺ دخل عليها وعندها امرأة من اليهود وهي تقول: "أشعرتِ أنكم تفتنون في قبوركم؟، فارتاع رسول الله ﷺ وقال: إنما تفتن يهود، قالت عائشة - ا -: فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله ﷺ: ألا إنكم تفتنون في القبور، وقالت عائشة - ا -: فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك يستعيذ من عذاب القبر"[2]، وهكذا رواه مسلم.

فهنا قوله ﷺ: إنما يفتن يهود، والفتْن أصله بمعنى عرض الشيء على النار، يعرض الذهب أو غير الذهب على النار ليتميز ويتخلص خالصه من شائبه، فهنا قال: إنما يفتن يهود يعني يعذبون بالنار، وأثبت أن ذلك حاصل لليهود، وهذا فيه إثبات عذاب القبر لكن في حق اليهود، لاحظ الحديث الأول لما قالت: هل للقبر عذاب يوم القيامة؟ هذا عام فإن العذاب هنا نكرة في سياق الاستفهام "عذاب" أيّ عذاب لأي أحد؛ لأن العموم يتجه إلى الأفراد والأحوال والأزمنة والأمكنة، فهنا هي تسأل هل للقبر عذاب يوم القيامة؟ والمكان هنا المحدد الذي هو القبر، قال: لا، من زعم ذلك؟، قالت: هذه اليهودية، قال: كذبت يهود، ثم قال: لا عذاب دون يوم القيامة، "لا عذاب" نكرة في سياق النفي، الأول في سياق الاستفهام، وهنا في سياق النفي، النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام كل ذلك للعموم، "لا عذاب" فيشمل العموم الأفراد أي لا عذاب على أي أحد قبل يوم القيامة، فظاهر الحديث الأول أن ذلك يشمل اليهود وغير اليهود، "لا عذاب دون يوم القيامة"، والرواية الثانية فيها إثبات أن العذاب واقع على اليهود، ولهذا فإن هذا القول الثاني أيضًا له وجه قوي، فالرواية الثانية تكون مفسرة للرواية الأولى، وهذه واقعة واحدة يعني النبي ﷺ تكلم فيها بكلام محدد معين، فهنا قوله ﷺ: لا عذاب دون يوم القيامة، مع قوله: إنما يفتن يهود على سبيل الحصر، يعني لا عذاب على هذه إذا قلنا: إن هذا خاص باليهود فمعناها أن هذه المرأة التي كانت تخاطب عائشة بقولها: "وقاكِ الله عذاب القبر" أن هذا غير صحيح، لا عذاب عليكِ، لا عذاب على المسلمين، لا عذاب على أهل الإيمان، لا عذاب على هذه الأمة قبل يوم القيامة، إنما تفتن يهود، والنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، فأخبر أن اليهود يعذبون في القبور، فهذا إنما يُفتن به يهود، هذا خاص باليهود، وبناء عليه فهذا الجواب الثاني أن النبي ﷺ أثبت عذاب القبر، لكن الذي نفاه هو أن يكون واقعًا في حق المسلمين، أو هذه الأمة، أو إذا توسعنا قلنا: في حق غير اليهود، إذا أخذنا بالعموم وأخرجنا اليهود؛ لأن "إنما" من أقوى صيغ الحصر، يعني تأتي في المرتبة الثانية من حيث القوة، قال إنما تفتن يهود.

قال: وقد يقال: إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها، فلما أُوحي إلى النبي ﷺ في ذلك بخصوصها استعاذ منه، والله  أعلم.

كأنه يقول: لو قيل هذا لكان أقرب، أو له أوجه، أو أحسن، يعني كأنه يميل إلى القول الأول، وقد يقال: إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها فلما أوحي إلى النبي ﷺ بخصوصها استعاذ منه، والله أعلم، ويمكن أن يجاب بأجوبة أخرى غير هذه، كأن يقال مثلًا: إن قوله تعالى في هذه الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا هذا خاص بآل فرعون، وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ۝ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فهذا خاص بهم حتى أُوحي إليه ﷺ بعذاب القبر، لكن إذا قيل: إن هذا خاص بهم فمعنى ذلك أن هذه الآية قد يُستشكل الاستدلال بها على إثبات عذاب القبر، ولا يقال: إن النبي ﷺ فهم من الآية أنها خاصة؛ لأن النبي ﷺ أعلم الناس بمعاني القرآن فلا يتطرق إليه هذا الفهم إن كان غير مراد لله - تبارك وتعالى -، لا يمكن.

إذا قلنا: إن هذه الآية خاصة بآل فرعون ومن ثم فإن النبي ﷺ أنكر عذاب القبر في البداية ثم أوحي إليه أنه واقع فعلى هذا لابدّ أن يقال: إذاً هذه الآية لا يستدل بها على إثبات عذاب القبر، وإنما هذا خاص بآل فرعون، لكن هذا القول فيه إشكال؛ ولهذا يُستبعد هذا القول، ويبقى عندنا جوابان:

الأول: أن الأرواح تعرض على النار، ولكن هل يقع عذاب في القبر؟ هذا الذي نفاه النبي ﷺ أولًا، أو يقال: نفى ما يتصل بهذه الأمة لما خاطبت اليهودية عائشة - ا -، وأثبته لليهود، وهذا جواب يؤخذ من ظواهر الأحاديث، وهما متقاربان، لكن ما يؤخذ من ظواهر الأحاديث في الجمع بينهما أولى من غيره مما يرجع إلى الاجتهاد، والله أعلم.

والقول بأنهما قضيتان أيضًا يرد عليه إشكال باعتبار أن عائشة - ا - بعدما عرفت أن عذاب القبر حق ثم هي تسأل مرة أخرى، وإذا كانت عرضت المرة الأولى فأنكره النبي ﷺ فهل تعرضه مرة أخرى وتقول: يهودية تقول لي.. وقد عرفت الجواب؟، فالله أعلم، ويمكن أن يقال: هي واقعة واحدة لكن الروايات جاء فيها اختصار، يعني في بعض الروايات جيء بالنتيجة المتقدمة يعني النهائية أنه في النهاية قال: حق، وفي أول الأمر كان قد أنكره فاختُصرت، يعني في نتيجة الرواية أثبت عذاب القبر، والله أعلم.

قال: وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً، وقال قتادة في قوله: غُدُوًّا وَعَشِيًّا صباحًا ومساء ما بقيت الدنيا، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخًا ونقمة وصغارًا لهم، وقال ابن زيد: هم فيها اليوم يُغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون.

هذا بقية قول ابن زيد.

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ هذه قراءة حمزة والكسائي ونافع وحفص أَدْخِلُوا يعني يقال للملائكة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقرأ الباقون: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ يعني يقال لهم: ادْخُلُوا، أمر لهم بالدخول.

وروى الإمام أحمد عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة[3]، أخرجاه في الصحيحين.

هذا تفسير لقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فعلى هذا القدر من الرواية المخرجة في الصحيحين أنه يكون من قبيل التفسير بالحديث الذي لم يتطرق فيه النبي ﷺإلى الآية، يعني أن المفسر عمد إلى الحديث وفسر به الآية اجتهادًا منه، وهذا على درجات، فتارة يكون في غاية الوضوح مثل هذا، يعني لا إشكال فيه أنهم يعرضون عليها غدوًا وعشيًا، هنا إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وأحيانًا يكون ذلك محتملًا، وأحيانًا في غاية البعد، يعني أن المفسر يربط بين الحديث وبين الآية وليس بينهما ارتباط، لكن هنا زيادة ليست في الصحيحين، وإنما هي عند ابن مردويه: "ثم قرأ - يعني الآية -: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا"، فيكون هذا من قبيل التفسير النبوي الصريح للآية الذي إذا صح سنده فلا كلام معه، يعني لا يتعلق به اجتهاد المفسر، نحن عرفنا في بعض المناسبات في أصول التفسير أو شرح المقدمة أن التفسير بالسنة على نوعين في الجملة: نوع يرجع إلى اجتهاد المفسر حيث يربط بين الآية والحديث الذي لم يتطرق فيه النبي ﷺ للآية، وهذا يحتمل الصواب والخطأ، ويدخله الاجتهاد والخطأ من المفسر، والنوع الثاني الذي لا يتطرق إليه الخطأ إذا صح سنده وهو ما ذكر فيه النبي  ﷺ الآية، فهنا إذا صحت الزيادة فيكون من النوع الثاني، وإلا فهو من النوع الأول.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (24520)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر، برقم (584)، وأحمد في المسند، برقم (24582)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، برقم (1379)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2866)، وأحمد في المسند، برقم (5926).