الجمعة 28 / جمادى الآخرة / 1447 - 19 / ديسمبر 2025
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلْأَحْزَابُ مِنۢ بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍۭ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَٰدَلُوا۟ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُوا۟ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ۝ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ۝ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [سورة غافر:4-6].

يَقُولُ تَعَالَى: مَا يَدْفَعُ الْحَقَّ وَيُجَادِلُ فِيهِ بَعْدَ الْبَيَانِ وَظُهُورِ الْبُرْهَانِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ: الْجَاحِدُونَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أَيْ: فِي أَمْوَالِهِمْ وَنَعِيمِهَا وَزَهْرَتِهَا، كَمَا قَالَ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ۝ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة آل عمران:196-197]، وَقَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:24].

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنَّ لَهُ أُسْوَةً في مَنْ سَلَفَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَذَّبَهُمْ أُمَمُهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، وَمَا آمَنَ بِهِمْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثه اللَّهُ يَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أَيْ: حَرَصُوا عَلَى قَتْلِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ رَسُولَهُ.

"ليأخذوه" بعضهم يقول: ليتمكنوا منه، ويحبسوه ويعذبوه ويصيبوا منه ما أرادوا، وبعض السلف يقول: ليقتلوه، فالأخذ هو القتل، والأولون يقولون: الأخيذ هو الأسير، أي ليأسروه، ليحبسوه، ليعذبوه وليجرجروه، وكل هذا واقع كما قال الله : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30] وهذه سنة الله في هذا الخلق، أقوى صيغ العموم "كل"، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ هذه الآية التي بين أيدينا "وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه" يعني يأخذوه بالقتل أو الأسر أو الإيقاع به والأذى، هذه سنة الله في الخلق فإذا عرف المؤمن أن جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لقوا الأذى من قومهم، وهمّ بهم قومهم أن يوصلوا إليهم الأذى بالقتل فما دونه فأتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لهم نصيب من هذا، هذه سنته الجارية، فإذا رأى المؤمن الأذى، وما يحصل من أعداء الرسل من الكيد، والمكر الكبار وشدة العداوة والأذى فإنه لا يضيق ذرعًا بذلك، وإنما يعرف أنها سنة الله - تبارك وتعالى -، وأن العاقبة لأهل الإيمان، وأن الله يدافع عن أوليائه، وأنه لا يسلمهم إلى أعدائهم، وإنما يبتليهم فيرفعهم، ولذلك كانت الرفعة دائمًا للرسل - عليهم الصلاة والسلام - ولأتباع الرسل إذا صبروا، وذلك الأذى لا يكون إلا رفعة وتطهيرًا، وتكون لهم الإمامة في الدين وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة:24] صبروا على ماذا؟ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ فالصبر هو الطريق، ومن قل بصره في هذا الباب لربما ضاق عَطَنُه حينما يرى الأذى والكيد وقالة السوء التي تصدر من الأعداء لأهل الصلاح والخير والإيمان.

قال: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي: ماحَلُوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي.

"ليدحضوا" قال: ليردوا الحق يعني ليزيلوه، المكان الدَّحْض هو المزلقة التي تنزلق بها الأقدام، فالباطل داحض بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [سورة الأنبياء:18] فيقال: الباطل زاهق، وداحض بمعنى أنه زائل لا بقاء له، ولا دوام، فلا يستقر الباطل، ينزلق ويزول، ويضمحل ويذهب كما يذهب الغُثاء يذهب جُفاء فلا بقاء له ولا دوام، وإن ظهر على سطح الماء وارتفع وانتفش مع الزَّبد، وما يجتمع حوله من القش ونحو ذلك، فيظن الناظر إليه لأول وهلة أن له حجماً وقيمة، ولكن سرعان ما يزول ويذهب ويضمحل، هكذا شأن الباطل دائمًا.

قال: وقوله - جلت عظمته -: فَأَخَذْتُهُمْ أي: أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام.

هذا الجزاء من جنس العمل، وفي المختصر هذا لم ينبه عليها، فما أدري أهي في الأصل أو لا، وابن كثير كثيرًا ما ينبه على أن الجزاء من جنس العمل، ويذكر عقوبات الأمم كيف كانت من جنس أفعالهم، فهنا هؤلاء وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ، قال الله تعالى: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ.

قال: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أَيْ: فَكَيْفَ بَلَغَكَ عَذَابِي لَهُمْ، وَنَكَالِي بِهِمْ؟ قَدْ كَانَ شَدِيدًا مُوجِعًا مُؤْلِمًا.

قَالَ قتادة: كان والله شديدًا.