لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [سورة غافر:57-59].
يقول تعالى منبهًا على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السماوات والأرض، وخلْقُهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما هو دونه بطريق الأولى والأحرى كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الأحقاف:33]، وقال هاهنا: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وينكرون المعاد استبعادًا وكفرًا وعنادًا وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا، ثم قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ أي: كما لا يستوى الأعمى الذي لا يبصر شيئًا والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره بل بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار، قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ أي: ما أقل ما يتذكر كثير من الناس، ثم قال تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ أي: لكائنة وواقعة، لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ أي: لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالمراد هنا بقوله: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ المراد بالخلق هنا الفعل وليس نفس المفعول، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: أن فعله - تبارك وتعالى - وهو خلق السماوات والأرض - هذه الأجرام العظام - أكبر من خلق الناس، إذ إن دلالة القدرة على خلقها أظهر من خلق الناس فهم أضعف، ولا مقارنة بين خلق السماوات والأرض وخلق البشر، وليس المقصود بقوله: أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ يعني أشرف، وإنما المقصود أن ذلك أعظم وأدل على القدرة، فالذي خلق هذه الأجرام العظام قادر على إعادة الناس مرة أخرى، وهذا أحد دلائل البعث في القرآن، وهو يتكرر في كتاب الله - تبارك وتعالى -، وقوله: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قد مضى في الكلام على الأمثال الآيات التي يذكر الله - تبارك وتعالى - فيها هذا المعنى، وجعله العلماء من قبيل المثل حيث إن الأعمى هو الأعمى عن الهدى وهو الكافر، والبصير هو من فتح الله بصيرته وهم أهل الإيمان، وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فالله قد سمى الكافر والضال بالأعمى، والمهتدي بالبصير، كما أن الله - تبارك وتعالى - قد سمى الكافر بالميت، وسمى المهتدي والمؤمن بالحي، وسمى الجهل والكفر والضلال بالظلمات، وسمى الهدى بالنور، وقوله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ يعني لا يستوون، كما قال الله - تبارك وتعالى -: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [سورة السجدة:18-20] الآية.
فهؤلاء لا يستوون، ونفي الاستواء - كما مضى في مناسبات شتى - يحمل على أعم معانيه، لا يستوون في أعمالهم وأحوالهم، لا يستوون في الدنيا ولا يستوون في الآخرة، لا يستوون في العمل، ولا يستوون في الجزاء من كل وجه في العاجل والآجل.