وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] هذا من فضله - تبارك وتعالى - وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول: "يا مَن أحبُّ عبادِه إليه مَن سأله فأكثر سؤاله، ويا مَن أبغضُ عبادِه إليه من لم يسأله، وليس أحد كذلك غيرَك يا رب"، رواه ابن أبي حاتم، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
اللهُ يغضب إنْ تركتَ سؤاله | وبُنيُّ آدمَ حين يُسأل يغضبُ |
وقال قتادة: قال كعب الأحبار: أُعطيتْ هذه الأمة ثلاثًا لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي، كان إذا أرسل الله نبيًا قال له: أنت شاهد على أمتك، وجعلكم شهداء على الناس، وكان يقال له: ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحـج:78]، وكان يقال له: ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[1] رواه ابن أبي حاتم، وروى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[2] وهكذا رواه أصحاب السنن والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير، وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضًا من طريق آخر.
وقوله : إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي أي: عن دعائي وتوحيدي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ أي: صغيرين حقيرين، كما روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صُوَر الناس، يعلوهم كل شيء من الصَّغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال، عصارة أهل النار[3].
قوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، ادعوني هنا فسرها بعضهم باعبدوني، واستدلوا على ذلك بما بعده، قالوا: هو قرينة تدل على هذا المعنى، وهو أن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، فقالوا: دل ذلك على أن المراد بالدعاء هنا هو العبادة، فهذه قرينة من الآية نفسها، وقد تحتمل الآية معنيين فأكثر ويكون في الآية قرينة مرجحة لأحد هذه المعاني فهذه طريقة في الترجيح، واستدلوا أيضًا بطريق آخر في الترجيح وهو باعتبار الاستعمال الغالب في القرآن، قالوا: فإن الدعاء في القرآن غالبًا يكون بمعنى العبادة، وذهب آخرون إلى أن المراد بقوله: ادْعُونِي يعني اسألوني، الدعاء المعروف بالسؤال، ولا شك أنه عبادة، وبين القولين ملازمة من هذه الجهة؛ وذلك أن الدعاء عبادة من أجلّ العبادات، والآية إذا كانت تحتمل معنيين فأكثر وكان بينهما ملازمة ولا يوجد ما يمنع من حملها على هذه المعاني فإنها تحمل عليها جميعًا، فيكون المعنى - والله تعالى أعلم - وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، يعني اعبدوني ويدخل فيه ضمن العبادة السؤال، ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، فاستجابته للعابدين بالثواب لأن العابد سائل بالفعل، يعني كيف قيل للعبادة دعاء؟ "ادعوني أستجب لكم"، ففسر الدعاء بالعبادة باعتبار أن السؤال على نوعين إما سؤال بالفعل فهذا الذي يركع ويسجد ويصوم ويقرأ القرآن وما إلى ذلك هو سائل بفعله، هو حينما يفعل هذه الأعمال إنما يريد الثواب؛ فهو سائل بهذا الاعتبار.
والنوع الثاني وهو السؤال بلسان المقال، يقول: يا رب اغفر لي، يا رب ارحمني، فهذا دعاء، وهذا دعاء.
هذا دعاء بالفعل، وهذا دعاء بالقول.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، فإذا كان هذا من قبيل المشترك اللفظي مثلًَا فحمله على معانيه أو على معنييه لا إشكال فيه إن لم يوجد ما يمنع من هذا، وهذا أبلغ في المعنى، والله تعالى أعلم، مع أن كثيرًا من أهل العلم حملوه على العبادة، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، فسر قوله: ادْعُونِي أي: اعبدوني؛ وذلك بالمرجحات التي ذكرت آنفًا.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ظاهر كلامه هنا لما تكلم على الدعاء والسؤال وما إلى ذلك يدل على أنه يُدخل السؤال في ذلك، يعني في هذا المعنى، بل كأنه فسرها بذلك، لأنه من البداية يقول: هذا من فضله - تبارك وتعالى - وكرمه أن ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة، والآثار التي نقلها بعده هي في السؤال.
على كل حال يدخل فيه هذا وهذا، ابن جرير يقول: اعبدوني، وظاهر كلام ابن كثير: اسألوني، وقد مضى الكلام على هذا أيضًا مفصلًا في رمضان في الكلام على آيات الصيام، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، فالقولان المذكوران هنا مذكوران هناك، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ مع أن الآية هناك أوضح في السؤال، ولكن الله - تبارك وتعالى - قال أيضًا في الآية نفسها تلك: فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ يعني إذا سألني أجبته وأعطيته سؤله، ويدخل فيه أيضًا العبادة وإثابة العابدين؛ لأنهم في الواقع يدخلون في جملة السائلين، وإن كانت تلك الآية أوضح في دعاء المسألة، وهنا وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، اعبدوني واسألوني ويدخل في تلك العبادة الذكر، ذكر الله - تبارك وتعالى - والثناء عليه وهو من جملة العبادة، ولذلك النبي ﷺ يقول: خير الدعاء دعاء يوم عرفة[4]، وقال بعده: وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، هنا ما ذكر سؤالًا وإنما ذكر هذا الذكر، هو يقول: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، فهل المقصود أفضل السؤال هو السؤال يوم العرفة يا رب اغفر لي يا رب ارحمني يا رب أعطني؟ أو المقصود ما هو أعم من ذلك، فيدخل فيه الذكر؟ أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه أنواع العبادات فيدخل فيه الصدقة، وسائر وجوه البر، فهذه كلها عبادات فتكون للعبادة مزية وشرف بحسب متعلقها من الزمان والمكان كما هو معلوم، فتكون الصدقة في يوم عرفة أفضل من الصدقة في غيره مثلًا، كما أن الذكر في يوم عرفة أفضل من الذكر في غيره، كما أن السؤال في يوم عرفة أفضل من السؤال في غيره، - الدعاء بمعنى السؤال -، شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أطال في الكلام على مسألة الذكر، وأنه أحد نوعي الدعاء، يعني الثناء على الله ، وذكر أدلة على هذا كثيرة، وبهذا ينحل عنك هذا الإشكال في قول النبي ﷺ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، ثم ذكر خير ما قال ﷺ- وخير ما قال النبيون قبله: لا إله إلا الله إلى آخره، فما ذكر سؤالًا، إذاً أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة يدخل فيه الذكر كما يدخل فيه السؤال.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي هذه القرينة التي أشرت إليها آنفًا مما يحتج به من يقول: إن الدعاء المراد به العبادة؛ ولهذا يقول ابن جرير في هذا: "الذين يستكبرون عن عبادتي" يقول: عن إفرادي بالعبادة، ويدخل فيه كل من استكبر عن عبادة الله سواء استكبر عن إفراده بالعبادة أو عن فعل العبادة نفسها، يأنف من ذلك، وقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي هنا ابن كثير يقول: دعائي وتوحيدي، فذكر الأمرين سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ هذه قراءة الجمهور، وفي القراءة الأخرى المتواترة قراءة ابن كثير بالبناء للمجهول سَيُدْخَلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ والداخر هو الصاغر الذليل الحقير كما فسره بذلك ابن جرير، وهو ما ذكره ابن كثير - رحمه الله -: أي: صاغرين حقيرين.
وقوله ﷺ: يُحشر المتكبرون يوم القيامة، أمثال الذرِّ في صُور الناس، هذا أحد الأمثلة لمَا ذكره ابن كثير - رحمه الله - في عدد من المواضع بهذا الكتاب فيما يتصل من كون العقوبة من جنس العمل، والذين راموا إلحاق الضرر بإبراهيم ﷺ بإلقائه في النار ماذا عاقبهم الله وماذا حكم عليهم؟، الذين أرجفوا بنبيهم شعيبًا ﷺ ماذا كانت عقوبتهم؟، قوم لوط ماذا كانت عقوبتهم لما قلبوا الفطر؟ وذكر لهذا أمثلة، وهنا هذا يصلح مثالًا أيضًا لذلك وهو أن المتكبر يريد التعالي والترفع فيعاقب بنقيض قصده فيكون هؤلاء أمثال الذر في صور الناس يطؤهم الناس يوم القيامة، وهكذا قوله - تبارك وتعالى -: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ يعني في حال من الصغار والذل وكانوا قد تكبروا فعاقبهم الله بضد قصدهم، وهذا كثير لو أنه جمع في رسالة أو نحو ذلك لكان نافعًا.
- تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3269)، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، ط3، 1419هـ.
- رواه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب الدعاء، برقم (1479)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة البقرة، برقم (2969)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، برقم (3828)، وأحمد في المسند، برقم (18352)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1329)، وفي صحيح الجامع، برقم (3407).
- رواه الترمذي، في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2492)، وأحمد في المسند واللفظ له، برقم (6677)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (8040).
- رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب في دعاء يوم عرفة، برقم (3585)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1102).