أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [سورة غافر:69-76].
يقول تعالى: ألَا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ويجادلون في الحق بالباطل كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟!، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا أي: من الهدى والبينات، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ هذا تهديد شديد ووعيد أكيد من الرب لهؤلاء، كما قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:15].
قوله - تبارك وتعالى - في صفة هؤلاء المجادلين في آيات الله مع وضوحها وظهورها: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا الكتاب هنا يحتمل أن تكون "ال" عهدية، بمعنى أنه القرآن، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ يعني هذا القرآن، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فيكون الذي بعده - هذا الذي أرسل الله به الرسل - هي الكتب التي أنزلها على الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ أي: القرآن وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني سائر الكتب، كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285].
وهذا قال به كثيرون ممن فسروا قوله: بِالْكِتَابِ أنه القرآن قالوا: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني سائر الكتب، إلا أن ابن جرير -رحمه الله- قال: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني من توحيد الله - تبارك وتعالى - وإخلاص العبادة له، يعني أن هذا أمر مشترك أن الله أرسل الرسل جميعًا يدعون إلى عبادة الله وحده، أوحى إليهم جميعًا وأمرهم أن يقولوا للناس: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59]، فابن جرير يقول: الذي أرسل الله به الرسل هو الأمر بالإخلاص والتوحيد والعبادة، والذين قالوا: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني الكتب السابقة قولهم أوسع وأشمل مما قاله ابن جرير - رحمه الله -؛ حيث إنه يتضمن ما ذكره ابن جرير؛ لأن هذه الكتب قد تضمنت هذا المعنى، ودلت عليه دلالة ظاهرة، بل هو المقصود من بعث الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وكل ما فيها من التفاصيل بأنواع التعبدات فهي داخلة في عبادة الله والإخلاص له وتوحيده، فكل هذه العبادات هي توحيد، كل ما يعمله الناس طلبًا لمرضاة الله - تبارك وتعالى - مما شرعه لهم فهو من جملة توحيده إذا صحت فيه مقاصدهم، ومن أهل العلم من يقول: إن "ال" للجنس في الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ يعني كذبوا بالكتب، وعلى هذا هنا ابن جرير يقول: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني من الهدى والبيان، والذين قالوا: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ يعني سائر الكتب جنس الكتب قالوا: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا أي مما أوحى الله إليهم مما ليس في كتبهم، يعني كما أوحى الله إلى النبي ﷺ بالسنة، وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني القدر الزائد على ما في الكتب المنزلة، يعني كذبوا بالوحي في صورة كتاب أو فيما كان زائدًا على ذلك، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.