الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة غافر:7-9].
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ حَمَلة الْعَرْشِ الْأَرْبَعَةِ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْكُرُوبِيِّينَ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، أَيْ: يَقْرِنُونَ بَيْنَ التَّسْبِيحِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ النَّقَائِصِ، وَالتَّحْمِيدِ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْمَدْحِ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ: خَاشِعُونَ لَهُ أَذِلَّاء بَيْنَ يَدَيْهِ.
هؤلاء هم أشراف وسادة الملائكة من حملة العرش ومن حوله، وبعضهم يقول: كجبريل وميكال وإسرافيل، فهؤلاء من أعظم الملائكة الكرام - عليهم الصلاة والسلام -، وبعضهم يقول: إن هؤلاء ملائكة العذاب؛ لأن ملائكة الرحمة يقال لهم: الروحانيون، وهذا يحتاج إلى دليل، فيقولون: هذا مأخوذ من الكرب وهو الشدة، لكن هذا يحتاج - أيضاً - إلى دليل، وبعضهم يقول: الكُروبيون هم المقربون؛ لأن أصل هذه المادة الكاف والراء والباء تدل على القرب، وهذا لا ينافي قول من قال: إنهم سادة الملائكة وحملة العرش ومن حوله، وورد في هذا آثار فيما أعلم أنه لا يصح منها شيء مرفوعًا للنبي ﷺ.
فالله ما سماهم بالكروبيين ولا سماهم النبي ﷺ، وإنما قال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، يعني: متلبسين بحمده - تبارك وتعالى.
وقوله: حملة العرش الأربعة باعتبار أنه ورد عن بعض السلف في بعض الآثار أنهم أربعة: اثنان يقولان كذا، واثنان يقولان كذا، لكن هذه الروايات فيها ضعف، وأما قوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [سورة الحاقة:17]، فقالوا: هذا حينما يأتي لفصل القضاء، والرواية التي يعتمد عليها في هذا مثلها - والله أعلم -، فلا يصح أن يثبت منها مثل هذا الأمر.
والضمير في قوله: أَذِلَّاء بَيْنَ يَدَيْهِ يرجع إلى الله ، أي يؤمنون بالله، وليس المقصود العرش، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أي: بربهم.
يعني الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - أخبر الله وأخبر رسوله أنهم يلعنون بعض الناس، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161]، وكذلك أيضًا الأحاديث الواردة في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات وهو ساخط عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح[2] إلى غير ذلك، فهذا دعاء عليهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله - تبارك وتعالى -، وهنا وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، وذكر الله صفة ذلك رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا، لكن هؤلاء الذين آمنوا ذكر أوصافهم في هذه الآية، وهذا ينبغي أن يُعتبر وأن يعرض الإنسان نفسه عليه دائمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا فغير التائبين لا يستحقون هذا الاستغفار، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ فالمضيع المفرط الذين كان أمره فرطًا لا يستحق هذا الاستغفار، إنما يكون هذا لأصحاب التوبة ولزوم الصراط المستقيم، يعني الذين يتبعون الوحي، أما الذين يتبعون المسالك المنحرفة، وينتحلون النحل الضالة فإن هؤلاء لا يصدق عليهم ذلك، ولاحظ هذا الدعاء "ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم" فهم يدعون لهم، ويدعون أيضًا لأزواجهم، ولآبائهم ولذرياتهم، لكن لمن كان صالحًا منهم، فوجود هذا الصلاح والإيمان والتوبة، والعمل الصالح، ولزوم الصراط المستقيم، واتباع الكتاب والسنة من كل وجه هو الطريق لمثل هذه المقامات العالية والرتب الشريفة التي تجعل هؤلاء الذين هم أشرف الملائكة، وأعظم الملائكة يستغفرون لهم، ويدعون لهم بهذا الدعاء، ولآبائهم وأزواجهم وذرياتهم، تدعو لهم عظام الملائكة، هذا ليس بالأمر السهل، ونحن نمر على هذه الآية لربما دون أن نقف عند هذا المعنى العظيم الذي تضمنته، فيحتاج المؤمن أن يعرض نفسه دائمًا على هذه الأوصاف هل هو محقق لها؟، فإذا كان مثل هؤلاء الملائكة يستغفرون له فإنه يستلذ بالأعمال الصالحة، وبما يلاقيه من المشاق في سبيل ذلك ولا يظهر عليه التبرم ولا الضجر ولا الضيق من قيامه بوظائف العبودية المتنوعة - وهي أبواب واسعة - ولسان حاله دائمًا وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [سورة طه:84]، فيؤخذ من هذه الآية المسارعة، فموسى ﷺ قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ فينبغي أن يسارع الإنسان ويبادر في القيام بوظائف العبودية، ما يتباطأ ويتثاقل، ولهذا أخبر الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى [سورة النساء:142]، فهي ثقيلة عليهم، ينظر الإنسان هل تثقل عليه هذه العبادات، يتبرم بها، لا يقوم إلى الصلاة إلا في حال من الكسل والتثاقل؟.
هذا لا يقال من جهة الرأي، فإن كان ذلك مما تُلقي عن رسول الله ﷺ فهذا له حكم المرسل، باعتبار أن شهر بن حوشب لم يذكر الواسطة، ولا يقال: إنه من قبيل المقطوع حكمًا يعني إنه من قول التابعي مثلًا، وإنما ذلك من الأمور الغيبية، ما لم يكن قد تُلقي من بني إسرائيل، وفي غير هذا الأثر أنهم أربعة: اثنان يقولان كذا، واثنان يقولان كذا.
قال: وَلِهَذَا يَقُولُونَ إِذَا اسْتَغْفَرُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا أَيْ: إِنَّ رَحْمَتَكَ تَسَع ذُنُوبَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَعِلْمُكَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أَيْ: فَاصْفَحْ عَنِ الْمُسِيئِينَ إِذَا تَابُوا وَأَنَابُوا وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ أَيْ: وَزَحْزِحْهُمْ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُوجِعُ الْأَلِيمُ.
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَيْ: اجْمَعْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، لِتَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي مَنَازِلَ مُتَجَاوِرَةٍ، كَمَا قَالَ - تبارك تَعَالَى -: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [سورة الطُّورِ:21] أَيْ: سَاوَيْنَا بَيْنَ الْكُلِّ فِي الْمَنْزِلَةِ، لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ، وَمَا نَقَصْنَا الْعَالِيَ حَتَّى يُسَاوِيَ الدَّانِيَ، بَلْ رَفَعْنَا النَّاقِصَ فِي الْعَمَلِ، فَسَاوَيْنَاهُ بِكَثِيرِ العمل، تفضلًا منا ومنة.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا طَبَقَتَكَ فِي الْعَمَلِ، فَيَقُولُ: إِنِّي إِنَّمَا عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ، فَيُلحَقُونَ بِهِ فِي الدَّرَجَةِ، ثُمَّ تَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَذِهِ الْآيَةَ: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
قَالَ مُطرِّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّير: أنصحُ عبادِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الملائكةُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْوأغَشُّ عِبَادِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الشياطينُ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ مِنْ شَرْعِكَ وَقَدَرِكَ.
هذا من المواضع التي يرد فيها السؤال وهو لماذا لم تختم الآية بالغفور الرحيم كآية المائدة إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؟ [سورة المائدة:118]، وقد مضى الكلام على هذا، وهو أنه حينما يغفر ويتجاوز لا يكون ذلك عن عجز عن الأخذ والمعاقبة، وإنما يكون ذلك عن عزة واقتدار مع حكمة، حيث يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، هذا يذكر هنا، ويزاد عليه جواب آخر هناك في آية المائدة.
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، برقم (2732).
- رواه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، برقم (1436).