أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ الشورى:1-6.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير:
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة.
وقوله : كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك.
وقوله تعالى: اللَّهُ الْعَزِيزُ أي: في انتقامه.
الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله.
روى الإمام مالك - رحمه الله - عن عائشة - ا - قالت: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟، فقال رسول الله ﷺ: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيَفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يأتيني الملَك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة - ا -: فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ﷺ ليتفصد عرقًا"[1]، أخرجاه في الصحيحين، ولفظه للبخاري.
فقوله - تبارك وتعالى -: حم عسق هذه كما سبق أنها حروف مقطعة، وأنها حروف تهجٍّ، وأنه لا معنى لها في نفسها، وإنما يؤخذ من ذلك، أو يفهم، أو تشير إلى أن هذا القرآن معجز، ولهذا لا تكاد تذكر إلا ويأتي ذكر القرآن، أو ما يدل عليه بعدها، هذا غالبًا، وقد مضى هذا مرارًا.
والعلماء - رحمهم الله - بعضهم من يقول: إنها في هذا الموضع تدل على معنى، كما يقولون في طه وفي: يس مثلاً، ونحو ذلك.
والذي يظهر أنها كغيرها.
وقوله: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، كَذَلِكَ يُوحِي هذه قراءة الجمهور.
القراءة الأخرى المتواترة قراءة ابن كثير: "يُوحَى" بالبناء للمجهول.
ومعلوم أن الموحِي هو الله - تبارك وتعالى.
على القراءة الأولى: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الله - تبارك وتعالى - فاعل يُوحِي، من الذي يوحِي؟ الله.
وعلى القراءة الأخرى: "كذلك يُوحَى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم" يكون لفظ الجلالة فاعلا لفعل مقدر محذوف، أي يُوحِي الله العزيز الحكيم.
وقوله - تبارك وتعالى -: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ على القراءة الأخرى: "كذلك يُوحَى إليك" بعضهم حمل ذلك على المُوحَى، باعتبار أن المراد المُوحَى به، وبعضهم يقول: إن المقصود هو المعنى المصدري يعني الإيحاء، كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فـ"كذلك يُوحَى إليك" يُوحِي إِلَيْكَ يعني باعتبار المعنيين: "كذلك يُوحَى إليك" يعني ما أُنزل إليك من الشرائع والإيمان والهدايات، وما إلى ذلك ليس ببدع، وليس بجديد كَذَلِكَ يعني كما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك، يعني كهذا الذي نزل عليك من التوحيد والإيمان والشرائع أُنزل على سائر الأنبياء.
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ بمعنى المضمون الذي هو التوحيد، وشرائع الإيمان أنزلها الله ، وأوحى بها إليك، وإلى الذين من قبلك، يعني فسروه بالمُوحَى كَذَلِكَ المُوحَى يعني المنزل.
المعنى الثاني: أن المقصود به الإيحاء، يعني المعنى المصدري: "كذلك يوحَى إليك"، كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ كذلك الإيحاء يُوحِي إليك الله - تبارك وتعالى -، بمعنى أن الإيحاء إليك، وإلى الذين من قبلك.
والوحي مصدر - كما هو معروف - ويأتي تارة مرادًا به المفعول، وتارة يراد به المعنى المصدري، يعني هذا القرآن الذي بين أيدينا الآن ماذا يقال له؟
وحي، هذا وحي، يعني مُوحًى.
لما تتناقش مع إنسان، وتذكر له آية من كتاب الله - تبارك وتعالى -، وتقول له: "هذا وحي، ليس برأي"، هذا وحي يعني موحًى.
وتارة يراد به المعنى المصدري، يعني هي العملية نفسها، الوحي يعني الإيحاء، نفس عملية الوحي.
تقول: الوحي تارة يأتي مثل صلصلة الجرس، وتارة يأتي بصورة رجل، وتارة.. وهكذا، تقصد نفس الإيحاء.
فهنا ذُكر في قوله: كَذَلِكَ يُوحِي كذلك الإيحاء يوحِي إليك، أو كذلك الموحَى يوحِي إليك.
الزمخشري حمله على معنى المفعول، الموحَى.
والشنقيطي - رحمه الله - رجح أن يكون المراد به المعنى المصدري، الإيحاء: يُوحِي.
في سؤال الحارث بن هشام: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟.
هنا أمر غيبي، يسأل عن الكيفية، المقصود به الصور والحالات التي يأتي بها الوحي، وذكر له النبي ﷺ هاتين الحالتين، مع أنه توجد حالات أخرى -كما هو معلوم-، كأن النبي ﷺ ذكر له الأغلب، غالب الحالات، يأتي كصلصلة الجرس، والصلصلة معروفة صوت، يعني بعض أهل العلم قالوا: إن النبي ﷺ أول ما يأتيه الوحي يسمع مثل صلصلة الجرس ليتهيأ لذلك، ثم بعد ذلك يعي ما قال، كما قال ﷺ: فيَفصِم عني، وقد وعيت ما قال[2].
وبعض أهل العلم يقولون: إن ما ورد من صفة مجيئه أنهم كانوا يسمعون عند وجهه ﷺ مثل دوي النحل، قالوا: ربما يكون النبي ﷺ يسمع مثل صلصلة الجرس، وهم يسمعون هذا الصوت، مثل دوي النحل، يعني بعضهم قال: هي حالة واحدة، - والله تعالى أعلم -.
بعض أهل العلم يقولون: إن ما ورد من صفة مجيئه أنهم كانوا يسمعون عند وجهه ﷺ مثل دوي النحل، قالوا: ربما يكون النبي ﷺ يسمع مثل صلصلة الجرس، وهم يسمعون هذا الصوت، مثل دوي النحل، يعني بعضهم قال: هي حالة واحدة، والله تعالى أعلم.
وهكذا قد يأتيه في غير القرآن، في المنام، الرؤيا المنامية.
وقد يحصل النفث في الروع، كما في الحديث: إنَّ روح القدس نفث في روعي[3] يعني في قلبي.
وبعض أهل العلم فسره: بالإلهام، يعني النفث في الروع.
وبعضهم فرق بينهما، وقال: ما كان بواسطة الملك فهو النفث في الروع، وما كان من قبيل الإلقاء في القلب من غير واسطة الملك فهو الإلهام، وكل ذلك من الوحي.
وتارة يأتيه الملك على صورته الحقيقية، هذا من صور مجيء الوحي، لكن منه ما يكون جاءه بالقرآن، ومنه ما لا يكون كذلك.
والوحي أوسع من القرآن، وسورة اقرأ - كما هو معروف - جاءه بها الملك على صورته الحقيقية.
هنا قول عائشة - ا -: "فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصد عرقًا".
مضى الكلام في بعض المناسبات في سورة النور -ر بما في أصول التفسير، أو شيء من هذا - أن ما جاء عن عائشة - ا - في قصة الإفك أنها ذكرت مثل هذا: "وإنه لينزل عليه في اليوم الشديد البرد" ففهم منها: أن آيات الإفك نزلت في وقت الشتاء، فيجعلونه مثالاً على الشتاء، وقد ذكرت هذا في شرح رسالة أصول التفسير للسيوطي، وبينت هناك أن هذا لا دليل عليه، وإنما هي تصف الحالة، شدة الوحي، وأنه يأتي بشدة البرد، ولا يعني ذلك أن نزول آيات الإفك كان في شدة البرد.
- رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، رقم (2)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي ﷺ في البرد وحين يأتيه الوحي، رقم (2333).
- رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم (2)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي ﷺ في البرد وحين يأتيه الوحي، رقم (2333).
- رواه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، (2144)، وابن حبان، رقم (3239)، وقال الألباني: "صحيح لغيره"، كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (1698).