الأربعاء 28 / ذو الحجة / 1446 - 25 / يونيو 2025
وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ۝ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ۝ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ۝ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة الدخان:1-8].

يقول تعالى مخبرًا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر كما قال : إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1]، وكان ذلك في شهر رمضان كما قال - تبارك وتعالى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185]، وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وقوله : إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ أي: معلنين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعًا لتقوم حجة الله على عباده.

قوله - تبارك وتعالى -: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ الكتاب هنا الأكثر على أن المراد به القرآن، أقسم الله بالقرآن، وفسره بعضهم بالكتب أي أنه جنس يشمل سائر الكتب، وَالْكِتَابِ أقسم بجنس الكتاب، ولكنهم لم يختلفوا في أن الضمير في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ أنه يرجع إلى القرآن وليس سائر الكتب فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ، وقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ بعضهم يقول: هذا هو جواب القسم كما مضى في سورة الزخرف، فما ذُكر هناك يقال هنا، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ أين جواب القسم؟، بعضهم يقول: جواب القسم هو إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ، وبعضهم يقول: ليس هذا جواب القسم؛ لأن هذا صفة للمقسم به الذي هو الكتاب "والكتاب المبين" ثم وصفه بقوله: "إنا أنزلناه" يعني ليس هذا جواب القسم، فأين الجواب؟ بعضهم يقول: "إنا كنا منذرين" أي وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، وهذا الذي مشى عليه واختاره ابن عطية - رحم الله الجميع -، وبعضهم يقول: لا، هذا جواب آخر، أي هو الجواب الثاني، أما الجواب الأول فهو قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ هذا الجواب رقم واحد، والجواب رقم اثنين إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، وبعضهم يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ جملة مستأنفة في حكم العلة، والله تعالى أعلم.

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ هذا جواب القسم، وإِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ يعني من أجل الإنذار، فهذا ليس بجواب آخر، وإنما هو كالتعليل لما قبله، والله أعلم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ هذه الليلة المباركة هنا قال: ليلة القدر، في بعض الليالي في رمضان تكلمت على ليلة القدر، ولماذا سميت بليلة القدر، وأن المشهور أن ذلك من التقدير فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يقدّر فيها ما يكون في السنة، وهذا بنص القرآن، وبعضهم يقول: إن القدر بمعنى المنزلة، يعني لما لها من القدر والمكانة.

ومن أهل العلم من جمع بين هذا وهذا فقال: كل هذا صحيح فهي ليلة خير من ألف شهر، لها منزلة ومكانة تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم [سورة القدر:4]؛ لشأنها وعظم مكانتها، وهي أيضًا يقدّر فيها، فسميت بهذا لمجموع هذه الأمور، والله أعلم.

يقول هنا: كما قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185] هذا من تفسير القرآن بالقرآن، وهو من أوضح أمثلته، وذلك أن تفسير القرآن بالقرآن يكون على مراتب من حيث القوة والوضوح، فهناك أشياء يقطع بها مثل هذا المثال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ، ما هذه الليلة المباركة؟ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، في شهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وكما أيضًا في قوله - تبارك وتعالى -: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2]، قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة الشعراء:23-24] فهذا تفسير للعالمين، هذا واضح، ومن تفسير القرآن بالقرآن ما يكون محتملاً، ومنه ما يكون بعيدًا، يعني يتوهم المفسر أن الآية تفسر الآية وليس بينهما ارتباط، وذكرت في أصول التفسير في مناسبات شتى أنه حينما يقال: إن تفسير القرآن بالقرآن هو أفضل طرق التفسير فالمقصود من حيث الجنس لا من حيث الأفراد، فالأفراد يدخلها اجتهاد المفسر، وقد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة، قد يوفق للصواب وقد لا يوفق، لكن من حيث الجنس تفسير القرآن بالقرآن هو أفضل أنواع وطرق التفسير، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ كون الليلة هذه مباركة بأي اعتبار؟

باعتبارات متعددة يعني هي خير من ألف شهر، هذا وحده يكفي، فإن البركة تعني الكثرة في الخير، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [سورة القدر:3]، وكذلك تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا، وكذلك أيضًا هي "سلام" سالمة من الآفات والشرور.

فهذه الليلة يقال لها: الليلة المباركة، هذا مما سماها به بعض أهل العلم، ليلة القدر، والليلة المباركة، ويذكرون لها أسماء أخرى، بعضهم يقول: ليلة البراءة.