قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [سورة الدخان:38-42].
يقول تعالى مخبرًا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله - جل وعلا -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [سورة ص:27]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون:115-116]، ثم قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ، وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين، وقوله : مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي: يوم يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا أي: لا ينفع قريب قريبًا، كقوله : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [سورة المؤمنون:101]، وكقوله - جلت عظمته -: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ [سورة المعارج:10-11] أي: لا يسأل أخًا له عن حاله وهو يراه عيانًا، وقوله - جل وعلا -: وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ أي: لا ينصر القريب قريبه، ولا يأتيه نصره من خارج، ثم قال: إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ أي: لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله بخلقه، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي: هو عزيز ذو رحمة واسعة.
قوله - تبارك وتعالى -: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ يعني خلقًا متلبسًا بالحق، وقول الحسن البصري وكذا قال الكلبي: إلا للحق، يعني أن الله لم يخلقهما عبثًا وباطلاً وإنما للحق، وهكذا قول من قال: لإقامة الحق وإظهاره، وهذه ألفاظ متقاربة.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ والحق هو الحِكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة:
منها: أن يُعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته.
ومنها: أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع.
ومنها: أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع.
ومنها أن يدبر الأمر ويبرم القضاء ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات.
ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فيوجد أثر عدله وفضله موجودًا مشهودًا فيُحمد على ذلك ويشكر.
ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
ومنها: أن يصدق الصادق فيكرمه، ويكذب الكاذب فيهينه.
ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي، فيعلم عباده ذلك علمًا مطابقًا لما في الواقع.
ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها.
ومنها: ظهور أثر كماله المقدس، فإن الخلق والصنع لازم كماله، فإنه حي قدير، ومن كان كذلك لم يكن إلا فاعلًا مختارًا.
ومنها: أن يظهر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به، ومحبته على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه، فتشهد حكمته الباهرة.
ومنها: أنه - سبحانه - يحب أن يجود وينعم ويعفو ويغفر ويسامح، ولابدّ من لوازم ذلك خلقًا وشرعًا.
ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه ويمدح ويمجد ويسبح ويعظم.
ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته، إلى غير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق، فخلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق، وخلقها متلبس بالحق، وهو في نفسه حق، فمصدره حق، وغايته حق، وهو متضمن للحق، وقد أثنى تعالى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية، فقال تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ [سورة آل عمران:191]، وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة ص:27]، وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له؟"[1].
هو يرد على نفاة الحكمة والتعليل في أفعال الله وصفاته، فهذه الأقوال التي سبقت: "إلا بالحق" يعني خلقًا متلبسًا بالحق، أو قول الحسن: إلا للحق، أو قول غيره: إلا لإظهار الحق، كل ذلك يرجع إلى معنى واحد، وقد انتظمها كلام ابن القيم - رحمه الله.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ المولى يقال: للناصر، والقريب ابن العم مثلاً؛ لأنه ينصر قريبه، ويقال للسيد: مولى، كما يقال للمملوك: مولى، ويقال للمعتَق: مولى، فالموالي بهذا الاعتبار أعلوْن وأدنوْن، السيد يقال له: مولى، والمملوك يقال له: مولى، فالمقصود أنه لا أحد ينصر أحدًا في ذلك اليوم، ولا يغني، كما قال الله : وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] فنفى جميع الأسباب التي يحصل بها الخلاص، وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً لا يستطيع أن ينفعه بنافعة، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فهنا الوساطة من أجل تخليصه مِن قِبَل من له منزلة هذا لا يكون يوم القيامة إلا لمن أذن الله له من الشافعين، ورضيه من المشفوع لهم، وكذلك أيضًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123] لا يمكن أن يدفع فدية ويتخلص، أو يخرج بغرامة أو نحو ذلك، وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ لا يستطيع أحد أن يخلصهم بالقوة، فكل هذه الأسباب أسباب الخلاص نفاها، لا بواسطة، ولا بمقابل، ولا بالقوة، لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ابن كثير يقول: أي: لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله بخلقه، مقتضى كلام ابن كثير - رحمه الله - هنا أن الاستثناء منقطع، يعني لكن من رحم الله، أي أنه لا يغني أحد، فالنفي باق على عمومه لا يُستثنى منه شيء، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ لكن من رحم الله فإن رحمة الله تنفعه، هذا كلام ابن كثير، فالاستثناء منقطع بمعنى لكن، وهذا الذي مشى عليه بعض أصحاب المعاني مثل الفراء والكسائي، أنه استثناء منقطع، وبعضهم يقول: الاستثناء متصل يعني لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، إلا من رحم الله، يعني من الشافعين، فإن الله - تبارك وتعالى - يشفعهم في قراباتهم، أي إلا أهل الإيمان هم أهل الرحمة، فهؤلاء يشفعون، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، استثناء متصل فلا أحد يغني عن أحد إلا أهل الإيمان فإنهم يشفعون، وعلى الأول لا أحد يغني عن أحد شيئًا إطلاقًا، لكن من رحمه الله نفعته رحمة الله، ويحتمل أن يكون الاستثناء راجعًا إلى المشفوع لهم، أي إلا من رحم الله نفعته الشفاعة.
هذا المقام مقام بيان انقطاع الأسباب، وأن الأمر وحده لله - تبارك وتعالى -، وهو مقام تخويف.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ فكلام ابن كثير كأنه - والله أعلم - أليق بالسياق والمقام؛ لبيان أن الله وحده هو المتفرد، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا [سورة الإنفطار:19]، فهذا باقٍ على إطلاقه، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فيكون اللجْأ إليه وحده دونما سواه، والله أعلم؛ ولهذا عقب بهذين الاسمين الكريمين، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فمن مقتضيات عزته أنه لا أمر لأحد سواه، ولا أحد يستطيع أن ينفع أحدًا أو يخلصه، وهو رحيم - تبارك وتعالى -، فمن حلت به رحمة الله ونزلت به نفعه ذلك، فجمع بين هذين الاسمين، فاسم العزيز إذا اقترن مع الرحيم فإن هذا فيه دلالة على أن عزته - تبارك وتعالى - لا تُقنِّط أهل الإيمان من رحمته، هو مع عزته رحيم، وكذلك أيضًا أنه - تبارك وتعالى - حينما يرحم لا يكون ذلك عن ضعف وعجز عن المؤاخذة، فهو رحيم مع العزة، وقد تكون الرحمة مع ضعف وعجز، أما الله - تبارك وتعالى - فهو عزيز رحيم.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:198).