الثلاثاء 27 / ذو الحجة / 1446 - 24 / يونيو 2025
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: في ليلة القدر يُفصَل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمرُ السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، وهكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف.

هذا القول الذي ذكره ابن كثير فِيهَا يُفْرَقُ يفرق يعني يُحكم ويفصل كل أمر حكيم، قال: يفرق يعني يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، هذا الكلام الذي ذكره ابن كثير هو كلام ابن عباس - ا - أنه يفصل من اللوح المحفوظ، فيكون "يُفرق" يعني يفصل من اللوح المحفوظ ، وبعضهم يفسره "يفرق" أي: يحكم، ولكن ينبغي أن نتذكر هنا أن قدر الله - تبارك وتعالى - على أنواع، عندنا القدر الأزلي، قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، هذا التقدير الأزلي الذي في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير، وهناك تقدير عمري، يرسل الملك إلى الجنين وهو في بطن أمه فيؤمر بأربع كلمات رزقه وأجله وعمله شقي أم سعيد، هذا عمري، وهناك تقدير حولي وهذا المراد هنا، والتقدير الحولي يعني يقدر فيها أمر السنة، "يفرق" أي: يُحكم، يُفصل ما يكون في الحول، طيب الله قدره قبل أن يخلق السماوات والأرض، يقال: هذا يكون لما في أيدي الملائكة، ابن كثير قال: يفصل من اللوح المحفوظ، فلا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا الله، يفصل ما يكون في السنة من اللوح المحفوظ ثم يكون في صحف عند الملائكة، وهذا الذي يحصل فيه المحو والإثبات يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [سورة الرعد:39] يعني: اللوح المحفوظ، هذا الذي ورد فيه أنه فيما يتعلق بصلة الرحم يُنسأ له في أثره، وما يتصل بالدعاء وما إلى ذلك، هذا التغيير الذي يحصل في الصحف التي بأيدي الملائكة، أن هذا يصل الرحم فيزاد في عمره مثلاً، أن هذا يتصدق فيدفع عنه بلاء، أو يدعو الله فيرفع عنه أو يدفع عنه بلاء، فالداعي يكون له إحدى ثلاث: إما أن يعجل، وإما أن يدخر في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر، فيكون الله في اللوح المحفوظ قد قدر عليه أن يدعو فيكون ذلك صرفًا لبلاء يقع له، فالذي في أيدي الملائكة من الصحف أن فلانًا هذا يقع له كذا فيدعو الله ، يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، فالمقصود هنا أنه لو راجعتم عبارات السلف لوجدتم العلماء - رحمهم الله - يذكرون أنه في هذه الليلة يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وليس في ليلة النصف من شعبان، يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يعني يقولون: يكتب فيها أسماء كل شيء، أسماء الحجاج الذين يحجون ذلك العام، ومن يموت في أثناء العام كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، والمراد بالأمر الحكيم: حكيم على وزن فعيل وهو يأتي بمعنى فاعل ويأتي بمعنى مفعول، هنا يقول: حكيم أي: مُحكَم لا يبدل ولا يغير، هذا هو الذي ذكره ابن كثير، وبعضهم يقول: حكيم هنا يعني أنه ذو حكمة بالغة، فأفعال الله مبنية على الحكمة، والحكيم من أسمائه يتضمن صفة الحكمة، هذا الذي مشى عليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، فسره بهذا، الحكيم يعني ذو حكمة، قال: وهذا لا يعارض قول من قال: إنه محكم كقول ابن كثير، قال: فهو محكم لا يتطرق إليه خلل، وهو أيضًا ذو حكمة، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

ولهذا قال  : أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا أي: جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي: إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات.

قال: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا أمراً هنا منصوب، بعضهم يقول: إنه منصوب بيُفرق، يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا يعني هو بمعنى فرقًا لكنه غاير في اللفظ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا فيكون بمعنى فرقًا، يعني يُفرق فرقًا، وهذا قال به جماعة من أصحاب المعاني كالزجاج والفراء، أي منصوب على المصدرية، وبعضهم يقول: النصب هنا على الحال، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا يعني آمرين من عندنا، حال كوننا آمرين، وبعضهم يقول: منصوب على الاختصاص، أي أعني بهذا الأمر أمرًا حاصلاً من عندنا، هذا قاله صاحب الكشاف، والأمين كأنه استحسن هذا القول، ونحن لا نشتغل بالإعراب لكن أحيانًا لا يتبين المعنى إلا به، يتوقف المعنى عليه، وإلا فالكلام كثير في مثل هذه القضايا، يعني مثل هذا الموضع ذكر فيه بعضهم اثني عشر قولاً في إعراب أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا، فلا تفهمها إلا أن تعرف إعرابها، أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا يُفرق فرقًا، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا بمعنى فرقًا من عندنا، فيكون النصب على المصدرية أو على الحال، ذكرُ الإعرابات أحيانًا قد لا يستسيغه، أو يستثقله بعض الإخوان، وما أذكر هنا إلا ما تدعو الحاجة إليه، وبعضهم يقول: إنه أيضًا حال لكن ليس من يفرق، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ بعضهم يقول: حال من أمر، كل أمر حكيم أمرًا، حال كونه أمرًا من عندنا، هذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، مع أنه استحسن كلام صاحب الكشاف، قوله: أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، بعضهم يقول: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من قوله: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، يعني: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ۝ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أنه بدل من قوله: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: هذا جواب ثالث للقسم على اعتبار أن الجواب الأول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ، والجواب الثاني: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، والجواب الثالث: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وبعضهم يقول: هذه أصلاً جملة مستأنفة.

فإن الحاجة كانت ماسة إليه، ولهذا قال تعالى: رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي: الذي أنزل القرآن هو رب السماوات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما، إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ أي: إن كنتم متحققين.