الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْا۟ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۝ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ۝ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ۝ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:16-19].

يقول تعالى مخبراً عن المنافقين في بلادتهم، وقلة فهمهم، حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله ﷺ، ويستمعون كلامه، فلا يفهمون منه شيئًا، فإذا خرجوا من عنده: قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الصحابة : مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ أي: الساعة، لا يعقلون ما قال، ولا يكترثون له.

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير من أن ذلك بسبب بلادتهم، وقلة فهمهم، وإدراكهم يشهد له قوله - تبارك وتعالى - بعده: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ [محمد:16] فإذا طُبع على قلب الإنسان فإنه لا يعي، ولا يفقه، ولا ينتفع بما سمع، ولا تصل هذه المواعظ إلى قلبه بحال من الأحوال.

مع أن الكثيرين فسروا هذا الموضع باعتبار أنهم يقولون ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء والاستخفاف، يعني يقولون مستهزئين مستخفين: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ هو يقول ماذا؟ يعني أنهم يظهرون قلة الاكتراث بكلامه، وما يوحى إليه، هكذا قال كثيرون، وهذا يحتمل، لكن قوله - تبارك وتعالى -: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ قد يفهم منه أن ذلك بسبب كون هذه القلوب لا تعي ولا تعقل عن الله - تبارك وتعالى -، فهم لهم قلوب لا يعقلون بها، فيسألون أهل العلم والفقه: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ ولهذا يقول: قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لو كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية لربما لا يجترئون أن يسألوا أهل العلم هذا السؤال البارد، وإنما يسألون إخوانهم من المنافقين على سبيل الاستهزاء، إذا تسللوا وخرجوا من مجلسه، لربما يواجه بعضهم بعضًا بهذا السؤال الذي ينبئ عن بلادتهم: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ على سبيل الاستخفاف والاستهزاء، يعني أنهم يقولونه لأصحابهم؛ لأنه ما يُظن بهؤلاء المنافقين أنهم يجترئون بهذا القول الذي يواجهون به أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ أن يقولوه على سبيل الاستخفاف، فإن الغالب أن المنافق هو أضعف من أن يقف أمام الذين أوتوا العلم؛ لأنه يذوب كما يذوب الماء في الملح، يتلاشى، لا يستطيع أن يتمالك، فضلاً عن أن يستطيع أن يسأل بطريقة فيها استخفاف، يعني لو أراد أن يسأل من غير استخفاف يمثّل أنه حريص وأنه يريد الفائدة، وما أشبه ذلك، هو لا يجرؤ على هذا، إذا رآه من جهة انحاز إلى ناحية أخرى؛ لأن الضعف الذي يملأ قلبه، التخوف من كل شيء، التردد يجعله لا يستطيع أن يواجه هؤلاء أصلاً بشيء من الحق الذي يسأل عنه، لو سأل بجد، فكيف يقول لهم على سبيل الاستهزاء والاستخفاف؟!، والله أعلم.

قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما كانوا يقولون لإخوانهم وأصحابهم هذا، ومن هنا فإن الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - كأن السياق يشعر به، لا يفقهون، ولهذا قال الله عنهم: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ [المنافقون:4].

وذكرنا هناك: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ أن هذا يدل أيضًا على البلادة، فإن البليد يقال له: لوح، فلا يفهمون، وذكرنا هناك أن هذه الخشب أيضًا لا يستفاد منها، فهي مسندة، هي عالة على غيرها، هي ليست بسقف ولا عُمد، ولا ينتفع بها في بناء ولا غيره، وإنما هي مسندة، تعتمد على غيرها، فهؤلاء - أعني المنافقين - هم من الطفيليات التي تعيش في المجتمع، في جسد الأمة، وتنخر فيه، ولا خير فيهم، ولا فائدة، هم يحضرون مجلس النبي ﷺ، ولكن لا ينتفعون بهذا الحضور، فهم كأنهم ألواح في هذه الأجسام والقامات الممتدة، التي ينظرون إلى طولها وعرضها، صباح مساء؛ لأنها غاية ما يؤملون، وجُلّ الهم متوجه إلى هذه الأجسام أن تُحفظ، وأن تطعم، وأن تستريح، وأن تحصل من اللذات، لكن ما يفوتها من النعيم الحقيقي، نعيم الأرواح أضعاف ما تتعاطاه من المآكل والمشارب، ونحو ذلك، ولذلك فإن الخوف يملأ قلوبهم والقلق كما قال الله : يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ فنعيم الأبدان غير نعيم الأرواح، ينعمون الأبدان، ولكن الأرواح خاوية، فتكون في شقاء دائم، وعذاب وقلق، بحيث يتخوف من كل شيء، ويتوقع المكروه دائمًا، فلا خير في هذه اللذات من المطعوم والمشروب مع حال بائسة كهذه، وروح خاوية كهذه الروح، نسأل الله العافية.

قال الله - تعالى -: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ أي: فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح.

لا فهم صحيح باعتبار أن الله طبع على قلوبهم، لا يفهمون، ولا قصد صحيح؛ لأنهم يتبعون الهوى، وإذا لم يوجد الفهم الصحيح، واجتمع مع ذلك سوء القصد فإن غواية الإنسان تكون أسبابها قد استحكمت، فإن الضلال إنما يكون بسبب هذا أو هذا، يعني إما أن يكون الإنسان لم يؤتَ فهمًا، فيقع في الانحراف؛ لأنه لم يعرف الحق أصلاً، أو لسوء قصده.

والانحراف عن الحق إما أن يكون لهذا أو هذا، فإذا اجتمع الأمران: سوء الفهم، وسوء القصد فلا طب لمن كانت هذه حاله، نسأل الله العافية.

وهذا قد يوجد بعضه لدى بعض المنتسبين للإسلام، فيكون انحرافهم بسبب هذين الأمرين، يعني لا فهم صحيح، ولا قصد صحيح، ومتبع لهواه، ومتعصب له، لا يريد أن يغير هذه الحال، وإذا كُلم ونوقش ونصح وعلم لربما لا يفهم هذه النصيحة على وجهها، ولربما ينقل عن هذا الناصح كلامًا مقلوبًا، لا تدري هل فهمه هكذا، أو لسوء قصده قلبه، فيقوّل الناس ما لم يقولوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم قال : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى أي: والذين قصدوا الهداية وفقهم الله - تعالى - لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها، وزادهم منها.

وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ أي: ألهمهم رشدهم.

قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الطبع على القلب بمعنى الختم، بحيث يصير هذا القلب عليه ما يغلفه، ويحول بينه وبين الهداية، فجاء الختم والطبع والأكنّة: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] الغلاف الذي يغطيه، فلا يصل إليه الهدى ولا الموعظة، وغير ذلك من الران، ونحوه، كل هذا مما يحجز عن الفهم، وعن الفقه، وعن الانتفاع، انتفاع الإنسان بما يسمع، وهذه الألفاظ - هذه العلل - التي تحول دون الفهم بالكلية تكلم عليها الحافظ ابن القيم - رحمه الله - جميعها، وشرحها وفسرها في بعض كتبه، كـ"إعلام الموقعين"، ولعلّي ذكرت شيئًا من هذا في الكلام على التدبر.

يقول: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى يعني: أن الله - تبارك وتعالى - يزيد المهتدين هدى هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الحديد:9] فهداياته - تبارك وتعالى - لأوليائه متتابعة ومستمرة: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [التوبة:115]، فالله - تبارك وتعالى - يزيد عبده المؤمن الذي أقبل عليه، وصدق معه، يزيده من الهداية، وينقله من هداية إلى هداية، ومن حال إلى حال أكمل منها زَادَهُمْ هُدًى.

وبعضهم يقول: زَادَهُمْ هُدًى يعني: زادهم إعراضُ المنافقين هدى.

وبعضهم يقول: زَادَهُمْ أي: النبي ﷺ.

وبعضهم يقول: أي: القرآن.

ولكن السياق في أن الله - تبارك وتعالى - زَادَهُمْ هُدًى مع أنه يحتمل أن يكون يعني ما يسمعون من النبي ﷺ من الهدى والقرآن والوحي يزيدهم هدى، وأما أولئك فلا يزيدهم سماع الآيات إلا رجسًا إلى رجسهم.

وهذا القول لا ينافي ما ذكره الحافظ ابن كثير: أن الله وفقهم فهداهم، إلى آخره؛ لأن الله - تبارك وتعالى - هو الذي أنزل هذا الوحي، وهو الذي يوفق للانتفاع به، والاهتداء به من شاء من عباده.

وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ قرينة تدل على أن ما ذكره الحافظ ابن كثير: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ أي: الله هداهم وآتاهم تقواهم، أن هذا هو الأولى.