وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:20-23] يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله ، وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كقوله - تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77].
وقال هاهنا: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي: مشتملة على حكم القتال، ولهذا قال: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: من فزعهم ورعبهم، وجبنهم من لقاء الأعداء.
ثم قال مشجعًا لهم: فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي: في الحالة الراهنة.
فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: جد الحال، وحضر القتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي: أخلصوا له النية لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى -: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ يعني مشتملة على حكم القتال، وهذا كما أنهم سألوا عن أحب الأعمال إلى الله، وتمنوا أن يعرفوه من أجل أن يفعلوه كما سبق في الكلام على قوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2] وأن ذلك نزل بسبب أنهم تمنوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله، فلما أخبروا أنه الجهاد تباطئوا وتثاقلوا عنه.
فهنا تمنِّي نزول سورة، سور القرآن تنزل، وإنما قصدوا سورة يكون فيها فرض الجهاد فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ "المحكمة" هنا من الإحكام، والإحكام - كما هو معروف - يأتي بمعنى: الإتقان، والقرآن كله محكم، بهذا الاعتبار كما هو معلوم كتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1] فهي لا يتطرق إليها خلل، ولا خطل في ألفاظها ومضامينها، الألفاظ والمعاني، وهذا معنى معروف في الإحكام، عام في القرآن، ويأتي الإحكام فيما يقابل النسخ، يعني في معناه الخاص: غير منسوخة.
فهنا بعضهم حمله على هذا المعنى الخاص: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ يعني غير منسوخة.
وقد جاء عن قتادة: أن كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، لكن هذا المعنى - والله أعلم - فيه بعد، هنا في هذا الموضع: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ يعني غير منسوخة، وحينما تنزل سورة ويفرض فيها الجهاد فإن ردود الأفعال تجاه ذلك قبل نسخها سيتبين فيها الحال، ليس المقصود هنا أنها نزلت سورة غير منسوخة، محكمة بهذا الاعتبار، وإنما يحمل الإحكام هنا على معناه العام، ولهذا قال ابن جرير: محكمة بالبيان والفرائض، يعني أنه قد بيّن ذلك فيها، وفصل على وجه لا يدع في الحق لبسًا.
والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - رد على القائلين بأنها غير منسوخة، هنا في هذا الموضع وفسره بأن المراد متقنة الألفاظ والمعاني، واضحة الألفاظ، واضحة الدلالة، وزاد عليه غير منسوخة، يعني جعلها بمعنى أعم وأوسع، هو لا يحملها على هذا المعنى الضيق، يفسرها به، أنها غير منسوخة، لكنه حملها على أوسع معانيها، فنظر إلى احتمال اللفظ الذي هو الإحكام للمعنى الخاص، وللمعنى العام، ففسره بهذا وهذا جميعًا، فهذا أوسع ما يحمل عليه هذا الموضع، والله تعالى أعلم.
ومثل هذا التفسير بهذا الاعتبار لا إشكال فيه - إن شاء الله -؛ لأن اللفظ يحتمل، لكن حينما يفسر ذلك بما يقابل النسخ فقط فهذا فيه بعد.
فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ هذه صفة ذكرها الله في المنافقين.
وكما قال الله - تبارك وتعالى - في سورة الأحزاب أيضًا عنهم، وقد مضى الكلام على هذا، فهم في حال الخوف يكونون بهذه المثابة: يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19]، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ بمعنى: أنه لا ينظر النظر الذي يكون متصرفًا فيه، متحكمًا في توجيهه، وإنما يتحرك بصره، تتحرك عيناه بطريقة غير إرادية من شدة الخوف، كأنه في سكرات.
وبعضهم فسره: بشخوص البصر، من شدة الخوف.
المقصود في هذا وهذا أنه لم يعد يتحكم ببصره، صار بصره يتقلب من شدة ما أصابه، والبصر في حالاته حين الخوف يكون بهذه المثابة، فيكون له من الشخوص، كما أخبر الله - تبارك وتعالى - عن أحوال الكفار في القيامة من شخوص الأبصار، وكذلك أيضًا بحال هؤلاء المنافقين، ففسر هذا بنظر من صار بصره شاخصًا عند الموت.
وحمله ابن قتيبة والزجاج على أنهم يشخصون أبصارهم نحوك، يشخصونها نحوك، ينظرون إليك نظرًا شديدًا، يعني صارت أبصارهم كأنها من حال الفزع في حالة من الدهشة والخوف والانزعاج، يصوبون النظر إليك بطريقة لا إرادية، فيكون هذا النظر بهذه المثابة.
فهنا في هذا الموضع قال: يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
هناك قال في الأحزاب: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فـتَدُورُ أَعْيُنُهُمْ يعني ينظر بطريقة من شدة الخوف، تدور عيناه، كأنه في حال غشية، نسأل الله العافية.
فهذه حال هؤلاء المنافقين، فالله ذكر أحوالهم ودخائلهم ومشاعرهم، والقلق الذي ينتابهم: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4] فهم في توجس وترقب دائم للمكروه.
يقول: ثم قال مشجعًا لهم: فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ هل هذا تشجيع لهم؟
هذا على المعنى الذي فسرها به ابن كثير - رحمه الله - يكون من قبيل الحث، والدفع على الامتثال، يعني ابن كثير هنا فسرها: أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي في الحالة الراهنة، يعني هنا هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير يحتمل، لكن عامة المفسرين على خلافه، فقد حملوا الآية على معنى آخر، يعني هنا على قول ابن كثير: قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ يتصل بما بعده: فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ كان الأجدر بهم والأولى بحالهم أن ينقادوا ويطيعوا، وأن يقولوا قولاً معروفًا، وأن لا يتلكئوا في الاستجابة، هذا المعنى تحتمله الآية، وهو الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله.
ولكن عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم فصلوا بين الجزأين، قالوا: فَأَوْلَى لَهُمْ هذا وعيد، كقوله: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة:34] وذلك للوعيد، فيكون قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ توعدهم، ثم يأتي كلام جديد مستأنف: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ يعني خير لهم، أو غير ذلك، مما ذكر من التقديرات كما سيأتي.
إذًا: فَأَوْلَى لَهُمْ هذا تهديد ووعيد، يتوعدهم به، وهذا الذي قال به من السلف مقاتل والكلبي وقبلهم قتادة، وبه قال من اللغويين الجوهري، واختاره كبير المفسرين ابن جرير، وقد ذكر العلماء أصل هذه المادة، حينما يقال: أولى له، في الوعيد، فالأصمعي يقول: حينما يقال ذلك في التهديد: أولى لك، أي: وليك وقاربك ما تكره.
ويقول غيره كالجرجاني: إن ذلك مأخوذ من الويل: فَأَوْلَى لَهُمْ أي: فويل لهم، وهذا الذي اختاره صاحب الكشاف.
وجاء عن قتادة: أن ذلك بمنزلة قوله: العقاب أولى لهم، يعني كأنه يتعلق بمقدر: العقاب أولى لهم.
وعلى كل حال هي للوعيد على قول عامة أهل العلم من المفسرين سلفًا وخلفًا "أولى لهم" على خلاف ما ذكره ابن كثير، فلا يكون قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ متعلقًا بقوله: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ومن ثم جعلوا قوله: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أنه كلام مستأنف، يعني: فَأَوْلَى لَهُمْ وعيد لهم، وويل لهم، ثم تقف، ثم: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ.
فيكون التقدير: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ بعضهم يقول: أمرُهم طاعة وقول معروف، أو طاعة وقول معروف خير لكم، وبنحو هذا قال الخليل بن أحمد وسيبويه، يقول: التقدير: طاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غيرهما.
يعني الآن على تقدير: أمرهم طاعة، يكون طاعة وقول معروف خبرًا لمبتدأ محذوف.
وعلى قول هؤلاء كسيبويه: يكون مبتدأ، طاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم.
ولكن هناك من قال كقول ابن كثير - رحمه الله -، يعني يكون: طاعة خبرًا لأولى فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ.
هذا على قول ابن كثير، تكون الجملتان مرتبطتين ببعضهما: فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ إلى غير ذلك.
ابن جرير - رحمه الله - يقول: إن طَاعَةٌ خبر عن مقالهم قبله.
هذا معنى مغاير لما سبق، يعني ابن جرير يرى أنها منفصلة، وأن قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ وعيد، لكن ما المراد بقوله: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ؟.
يقول: إن ذلك من قبيل الخبر عنهم، حيث كانوا يقولون قبل ذلك: سمعًا وطاعة، فيكون ذلك إخبارًا عن قولهم وحالهم، هنا يقول: فَأَوْلَى لَهُمْ ثم نقف في رأس الآية: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ يعني أنهم كانوا يقولون: سمعًا وطاعة، فيكون: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ من قبيل الخبر عن هؤلاء، وليس من قبيل الطلب، كأنه نظر إلى ما بعده: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ يعني هم يقولون: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ، فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ في قيلهم هذا، ودعواهم التي ادعوها أنهم يسمعون ويطيعون: لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ هذا على قول ابن جرير - رحمه الله -، والذي قبله أوضح في المعنى، والله أعلم.
طاعة وقول معروف خير لهم، أو أمرهم طاعة وقول معروف، فهي جملة مستأنفة على تقدير محذوف، إما أن يكون مبتدأ أو خبرًا، لا أنها إخبار عن قولهم قبل ذلك.