وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير - ا - أنه قال: نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله ﷺ."
قوله: "نحلني أبي نحلاً " يعني أعطاني عطية دون باقي أبنائه، وبناته.
هذا يستدل به من يقول: إن العطية في الأولاد تكون للذكور، والإناث على السواء، وأما قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:11] فهذا في الميراث فقط؛ لأن النبي ﷺ هنا قال: أكل ولدك؟، والولد يصدق على الذكر، والأنثى، إذ لم يستفصله النبي ﷺ هل لك أبناء، وبنات، وإنما قال: أكل ولدك نحلت مثله؟، والمثل هو نظير الشيء من كل وجه، فدل ذلك على أن العطية، والهبة للأولاد تكون متساوية للذكور، والإناث، ولا تكون كالميراث للذكر مثل حظ الأنثيين، والقول الآخر هو أنها كالميراث، واحتجوا بأن الله قسم الميراث بهذه الطريقة، قالوا: وهذا في غاية العدل فكذلك الهبة، لكن هذا القول قد لا يخلو من إشكال.
وعلى كل حال توجد هناك مبررات أخرى للتفاضل نحو ما إذا كان أحد الأبناء صالحاً تقياً مطيعاً لله ، والآخر مدمن مخدرات مثلاً، فهل يسوي بينهما، ويعطي كلاً منهما بالتساوي خاصة، وأن الآخر سيشتري بالمال مخدرات يتعاطاها؟
هذه المسألة تكلم فيها العلماء، فمن أهل العلم من قال: لا بأس أن يعطي البار الذي يعينه، والذي يعمل معه، والذي يقوم على حوائجه، وشئونه ما لا يعطي ذاك الذي قد أدار إليه ظهره، وكذلك إذا كان أحدهما به إعاقة، ويحتاج ما لا يحتاجه الآخر، هل يسوي بينهما، أو لا؟ هذه مسائل أخرى تكلم حولها أهل العلم، لكن الكلام الآن عن كونه ذكراً، أو أنثى، هل يجب التسوية أم للذكر مثل حظ الأنثيين؟
ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في نظائره من القرآن، وغيره، كما في قوله: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [سورة النــور:28].
وقوله: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [سورة الفرقان:24]."
يقصد هنا أن أفعل التفضيل ليس على بابه، فالأصل في أفعل التفضيل أنه في شيئين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر، تقول: زيد أكرم من عمر، أي كلاهما اشترك في الكرم، فزاد أحدهما، لكن حينما يقول الله : اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فليس من هذا الباب؛ لأن خلاف العدل لا يقال فيه: إنه قريب للتقوى لكن العدل أقرب منه، لهذا يكون - بهذا الاعتبار - أفعل التفضيل ليس على بابه هنا، وإنما المقصود به مطلق الاتصاف، بمعنى اعدلوا فالعدل قريب من التقوى، ومن هذا الباب قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [سورة الفرقان:24] فقوله: خَيْرٌ هذه صيغة تفضيل، ومع ذلك لا مقارنة بين أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وكذلك الأمر في قوله: أوَأَحْسَنُ مَقِيلًا لا وجه للمقارنة بين مقيل أهل الجنة، ومقيل أهل النار، ولذلك فإن أفعل التفضيل هنا - أحسن مقيلاً - ليس على بابه، وإنما المقصود، وصف مقيلهم بالحُسن.
يعني ليس معناه أن النبي ﷺ كان فظاً، ولا غليظاً، وعمر زاد عليه، حاشاه - عليه الصلاة، والسلام -.
- أخرجه البخاري في كتاب الشهادات - باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2507) (ج 2 / ص 938) ومسلم في كتاب الهبات - باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) (ج 3 / ص 1241).