هنا في قوله: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ هنا ماذا يقول: الزرع الذي يراد لحبه، وادخاره، حب الحصيد: يعني ما يُقتات ويُحصد من الحبوب، يعني حب الزرع الحصيد هذا الذي يقوله عامة المفسرين، وأصحاب كتب معاني القرآن، حب الحصيد: حب الزرع الحصيد، هذا قول البصريين، أن فيه مقدراً، حب الزرع الحصيد.
الكوفيون يقولون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه لا يحتاج إلى تقدير، حب الحصيد مثل: مسجد الجامع، يعني: هو المسجد نفسه، فحب الحصيد: الحب نفسه، أضافه إلى نفسه باعتبار صفته أنه يُحصد هذا الحب، لكن الكوفيون يقولون: حب الزرع الذي يحصد، حب الزرع الحصيد، أن الذي يُحصد هو الزرع، ثم يستخرج منه الحب، والأمر واضح من جهة المعنى، ومذهب البصريين هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - أن المعنى: حب الزرع الحصيد.
وابن كثير في قوله: هو الزرع الذي يراد لحبه، وادخاره، يوافق مذهب البصريين، ويوافق كلام ابن جرير، العلماء هكذا عبروا قالوا: الحب الذي يُقتات ويُدخر ... إلى الخ، وخصوا الحب بالذكر - مع أن هناك أشياء ثانية تخرج بالمطر غير الحب - لأنه مبنى الأقوات يعني هذه الحبوب، ولذلك في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [سورة المطففين:1-2]، فذكر الكيل مع أن التطفيف قد يكون بالوزن أيضاً، لكن لما كانت الأقوات - ثورة الخبز - كما يقال معايش الناس الأساسية، القضايا الأساسية عندهم التي تلمس الحاجة مباشرة هي الأشياء المكيلة من الحبوب التي عليها قِوام العيش، فهنا جاء الوعيد: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [سورة المطففين:2-3] فذكر الوزن في الآخر - والله أعلم -.
هذا قول الجمهور أن الباسقات: الطوال، مع أن لفظة الباسقات تأتي بمعانٍ أخرى، بسق: تأتي لمعانٍ غير الطول، لكن هنا في هذا الموضع وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ بمعنى: الطوال، وإلا فسعيد بن جبير يقول: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ: يعني مستويات، لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ وبعضهم يقول: مواقير، حوامل وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ يعني مليئة بالحمل الثمر، حيث عذوق الرطب، أو البسر، أو التمر؛ موقرة بهذه الثمار، كما يقوله جماعة من السلف كالحسن، وعكرمة، واختاره من أصحاب المعاني: الفراء يعني: موقرة، ليس المقصود طويلة بل: حوامل، والشاة يقال: بسقت يعني ولدت، فهذا الحَمل الذي في هذه، وما يخرج، وما يكون من الثمار الُموقَر في عذوق النخل، بعضهم يقول هذا معنى باسقات، لكن الذي عليه الجمهور، وهو اختيار ابن جرير والذي ذكره ابن كثير: أن المقصود بالباسقات: الطوال.
لكن يرد هنا سؤال هو أن الله هنا قال: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ يعني طوال، وفي موضع آخر قال: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] قريبة التناول، لكن الباسقات هي التي لا تطالها الأيدي لارتفاعها.
يزعم بعضهم أن عندهم نخلاً طوالاً في البلاد والمزارع القديمة تجد النخل أحياناً يصل إلى طول عظيم من أيام الأجداد؛ بعضهم يزعم أنه لا يُؤبّر هذا النخل إلا بنوع من البنادق اسمه أم مقمع تُحشى في داخلها أشياء مع البارود، ثم يَرمى بها، قديمة لها فوهة عريضة قليلاً، يقول: لا تؤبر إلا بهذا، بالرمي لبعدها، وهذا كلام غير صحيح، وفي الآية الثانية: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قريبة، سهلة التناول، قريبة من الأيدي، في مقام الامتنان، فما وجه الجمع بين هذه الآيات؟
الجواب: هنا هي في بيان دلائل القدرة أعظم في نظر الناظرين، النخل الطوال الباسقات، فهذا من دلائل قدرته - تبارك وتعالى -، وبديع صنعه وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ تريد أن تذكر أو تورد نماذج، أو صوراً، أو مرئيات ومشاهد تدل على خلق الله، وعلى قدرته، وعلى بديع صنعه تأتي بالنخل الطوال وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ.
أما في مقام الامتنان: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ فهي قريبة تأخذ منها، سهلة التناول، في متناول اليد وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ فهذا كله في مقام الامتنان.
لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ أي منضود، رِزْقًا لِلْعِبَادِ أي للخلق.
الطلع: أول ما يخرج من الثمر للنخل هذا المعروف في كلام العرب، والذي ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وهو معنى معروف لَهَا طَلْعٌ الطلع أول ما يخرج من الثمر، والنخل أول ما يخرج في غلاف كما سبق في قوله: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا [سورة فصلت:47] فهذا الكِم، والكُم - كما يقول بعضهم بالضم والكسر - هو هذا الغلاف عند تأبير النخل، فتخرج في هذه الأغلفة، فهذا الطلع الآن هو أول ما يخرج من الثمر للنخل.
نضيد: أي منضود بمعني: متراكب، ما المقصود بهذا الطلع النضيد؟ يعني المقصود ما كان في أكمامه ولم ينفتح بعد لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، أما إذا انفتح وخرج من أكمامه فليس بنضيد، هذا الذي قاله أهل العلم من أهل اللغة قاله ابن جرير - رحمه الله - وابن القيم أن ما كان في أكمامه فهو النضيد، وأما إذا خرج منها قالوا: فليس بنضيد، لا يُقال له نضيد، ولهذا الآن بعضهم يسمي محل التمور "نضيد" هذا لا يقال له نضيد بها إن كان يقصد هذا المعنى الذي في الآية، وإنما النضيد ما كان في أكمامه قبل أن يخرج.
هذه إحدى الطرق في الاستدلال للبعث في القرآن الكريم، إحياء الأرض بالمطر، وهذا كثير في القرآن، هذا أحد أنواع الأدلة، وله مفردات، وأمثلة كثيرة، وهناك أشياء أخرى مثل: خلق السماوات، و الأرض، وأنها أكبر من خلق الناس، وهناك أناس ماتوا فأحياهم الله ، وهناك إخراج النار من الشجر الأخضر، إلى غير ذلك من دلائل قدرة الله على البعث، ومن أشهرها: الاحتجاج بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، ولهذا قال: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [سورة ق:15].