الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ۝ كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۝ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ۝ وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ۝ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ۝ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ۝ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ[سورة الذاريات:15-23].

يقول تعالى مخبراً عن المتقين لله : إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، بخلاف ما أولائك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال.

هذا على عادة القرآن حينما يذكر أهل الشقاء يذكر أهل النعيم؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، ليكون العبد جامعاً بين الرغبة والرهبة، الخوف والرجاء، وقوله -تبارك وتعالى-هنا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،إِنَّ الْمُتَّقِينَ ، التقوى معروفة: ألا يجدك حيث نهاك وألا يفقدك حيث أمرك، تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، الآن ذكر المتقين ذكر هذا الوصف، وترتيب النتيجة -التي يسمونها الحكم- عليه يدل على ملازمة بينهما، كترتب المسبب على السبب، ذكر معه ما يدل على سببه وهو التقوى، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني: أن التقوى سبب أورثهم هذه الجنات والعيون بعد رحمة الله ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ، هذا المعنى الذي ذكرته آنفاً هو ما يعرف عند الأصوليين بدلالة الإيماء والتنبيه، أي يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك معيباً عند العقلاء من السامعين، يقرن الحكم بوصف، تقول: الجادون يظفرون، وسبب الظفر الجد، فهو مذكور بعده، يقرن الحكم بوصف، يظفرون هذا هو الحكم، بوصف هو الجد، لو لم يكن علة له لكان عيباً بمعنى أنه لو قال: الجادون يظفرون، فقيل له: عرفنا أن الجد هو سبب للظفر، قال: لا، أنا لا أقصد هذا، فسبب الظفر أنه هبة وهبت لهم، نقول: إذاً لماذا تذكر الجد، لماذا لم تقل: الظفر هبة، فهذا يعتبر عيباً في الكلام، الجادون يظفرون، أنت ذكرت الصفة التي أوجبت هذه النتيجة، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ، والذي جعلهم في جنات التقوى، هذه اسمها عند الأصوليين دلالة الإيماء والتنبيه، وهي إحدى الدلالات المتعلقة بالمنطوق، والقرآن تسلط عليه جميع أنوع الدلالات فيستنبط منه الأحكام والمعاني الكثيرة، فدل ذلك على أن التقوى سبب.

وهناك قاعدة أخرى وهي: "أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"،  إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، هذا حكم معلق على وصف وهو التقوى، فنعيم أهل الجنة يتفاوت بحسب تفاوت التقوى، على قدر تقواهم، على قدر ما يكون عندهم من النعيم، فأهل الجنة ليسوا على مرتبة واحدة، على مراتب، "الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، يزيد النعيم وينقص بحسب زيادة الوصف "التقوى" الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، الحكم لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ الوصف:آمَنُواْ ، فعلى قدر إيمانهم على قدر ما يكون لهم من الأمن والاهتداء، وهكذا.

وقوله تعالى:آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ، قوله تعالى: آَخِذِينَ حال من قوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ : فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذون ما آتاهم ربهم، أي: من النعيم والسرور والغبطة.

هذا هو المتبادر إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، في حال كونهم  آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ  من النعيم، أي: أنهم قابلون ما أعطاهم ربهم من الكرامة والخير وألوان النعيم واللذة في الجنة، هذا هو المعنى المتبادر، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، ويدل عليه السياق إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، هذا تعليل،قَبْلَ ذَلِكَ يعني قبل يوم القيامة، قبل الآخرة، قبل دخولهم الجنة، كانوا محسنين في أعمالهم، كانوا من الصالحين، من المتقين، فهذا تعليل لكونهم بهذه الحال، ثم ذكر هذا قال:كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، هذا الذي أورثهم هذا النعيم، فكل السياق قبله وبعده يدل على هذا المعنى، وإن كان من أهل العلم من قال بخلافه، أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- يقول:آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ يعني: الفرائض في الدنيا، أنهم يتلقون عن الله بالقبول ما افترض عليهم، وقبل أن يفرض عليهم كانوا في حال من الإحسان والعمل الطيب الصالح الذي يرضاه عنهم، فكلما فرض عليهم فريضة تلقوها عنه بالقبول والإذعان، هذا اختيار ابن جرير،  آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ أي: من الفرائض والأحكام في الدنيا، لكن القول الأول أقرب إلى السياق، وعلى فضل ابن جرير -رحمه الله- ومنزلته في التفسير ومكانته إلا أن العصمة متعذرة،فـ  آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ يعني من الكرامة والنعيم واللذة.

وقوله : إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ[سورة الذاريات:16] أي: في الدار الدنيا مُحْسِنِينَ، كقوله:كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[سورة الحاقة:24].

وهذا كثير في القرآن، كقوله-تبارك وتعالى-:سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ[سورة الرعد:24]، بما صبرتم على طاعةالله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، والدنيا دار الصبر، والآيات في هذا كثيرة في سورة السجدة وفي غيرها.