يعني أنهم لما لم يأكلوا من طعامه خاف أنهم أرادوا شراً؛ لأن من عادة من أراد شراً أن لا يأكل من طعام صاحبه، ومن عادة الناس إلى عهد قريب أن الإنسان إذا أراد أن يظهر حسن نية أن يأكل من طعام من نزل عليه، فإن لم يأكل فإنه يظن به السوء، وهنا الملائكة بينوا حالهم وأنهم ملائكة لا يأكلون، وأنهم جاءوا لغرض أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وهذا فيه فائدة وهي أن الإنسان يدفع عن نفسه الريبة والتهمة إذا كان في موقف قد يظن فيه ذلك، حسبكم إنها صفية[1]، أما الذي يضع نفسه في موضعٍ يجعل الناس يسيئون الظن به، ويلومهم بعد هذا فلا يلوم إلا نفسه، وذكر هذا من الفوائد الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الكلام على قصة الحديبية، لما بركت ناقة النبي ﷺ فقالوا: خلأت القصواء، يعني انقطعت من طول السفر، فقال: ما خلأت القصواء، وما ذلك لها بخلق، إنما حبسها حابس الفيل، فبين لهم هذا، وما أنكر عليهم، ما قال: لماذا تقولون: خلأت القصواء؟، وإنما بين لهم حقيقة الأمر، فالإنسان يبين حاله، وإذا كان يتصرف تصرفات تجعل الآخرين يتقوّفون فيه، أو ينظرون إليه بريبة فالمفروض أنه يبين يقول: أنا فعلت هذا من أجل هذا؛ حتى لا يسيء الناس الظن به، فإذا أساءوا الظن به فلا يلومن إلا نفسه.
هذا هو الظاهر المتبادر أن الضحك على ظاهره، ولا يجوز حمل ألفاظ القرآن إلا على المتبادر المشهور من معانيه، ولا يحمل على معنى قليل الاستعمال إلا لدليل يجب الرجوع إليه، فهذا أصل في التفسير، فهنا الضحك يحتمل الضحك المعروف، وهذا هو المتبادر، ويحتمل الحيض، ضحكت بمعنى حاضت، هي عقيم وكبيرة في السن قد انقطع حيضها، كما يقولون: جاوزت التسعين، وهو جاوز المائة، فجاءها الحيض بعد هذا السن مقدمة للحمل، صارت تحيض، من ذوات الأقراء، فهذا معنى وإن كان محتملاً من جهة اللغة إلا أن حمل الآية على المعنى المشهور المتبادر أولى، فضحكت يعني الضحك المعروف، لماذا ضحكت؟ بعضهم يقول: ضحكت لما رأت زوجها قد خاف منهم، لكن هذا ليس محلاً للضحك ولا سبباً للضحك، هذا ما يوجب الضحك لاسيما المرأة التي توقر زوجها وتعظمه، وهذا إبراهيم ﷺ أكمل الناس نفساً وأشجعهم قلباً، وأتمهم قوامة، والمعروف أنها ضحكت بسبب أنها فرحت بهلاك هؤلاء المجرمين، وهكذا المؤمن يفرح بهلاك أهل الظلم والإجرام والفساد والعتو على الله -تبارك وتعالى-، وقد قال الله في خبر بني إسرائيل وإهلاك فرعون:وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ[سورة البقرة:50] فهذا أبلغ ما يكون في التشفي، أن يهلك عدوه وهو يشاهد ويتفرج، ينظر إليه وهو يهلك، فهذا امتن الله به عليهم وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ، وأبلغ منه إذا كان هذا الإهلاك بيده، كما قال الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ[سورة التوبة:14]، ولهذا كان انتصار المؤمنين في غزوة بدر أبلغ بكثير من انتصارهم في يوم الأحزاب، فذاك جاء بالريح وزلزلة الملائكة -أعني يوم الأحزاب-، وأما يوم بدر فبقتل صناديدهم وكبرائهم، وجرهم ورميهم في القليب، فحصل بهذا من التشفي من أعداء الله ما لا يقادر قدره، فهذا أبلغ، فهي ضحكت فرحاً، واستبشاراً وسروراً بهلاك هؤلاء المجرمين.
قال الله تعالى:وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:71-72]، وفي الموضع الثاني قال:فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ، الكلام واحد وفي موقف واحد، أو حصل أكثر من مرة؟ مرة قالت:عَجُوزٌ عَقِيمٌ ، ومرة قالت:يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ؟ هو موقف واحد، وهذا كثير في القرآن في ذكر قصص الأنبياء ﷺ وغير ذلك، فينقل الكلام بصيغتين مثلاً وهو من متكلم واحد في موقف واحد، وسبب ذلك أن هذا نقل للكلام بمعناه، بمعنى أن هذا الكلام الذي قيل بلغة أعجمية، هؤلاء ليسوا من العرب، وما ينقل من مثل هذا إلى لغة أخرى فإنما ينقل المعنى، فتارة يختصر وتارة يبسط فهو نقل للمعنى، ولذلك فإن بعض اللطائف التي قد يستنبطها بعض أهل العلم من هذا قد تكون محل نظر وتأمل، يعني مثلاً ابن القيم -رحمه الله- في الموضع الذي قالت فيه:عَجُوزٌ عَقِيمٌ يقول: هذا فيه أدب المرأة المسلمة أنها تتكلم بأوجز عبارة، فما طولت الكلام، وإنما قالت كلمتين، ذكرت فيهما علتين كل علة تكفي بمفردها من أجل امتناع الولد عَجُوزٌ ما تلد، و عَقِيمٌ ، وفي الموضع الثاني هنا قالت:يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ، هذا كلام طويل، فحينما تذكر مثل هذه اللطائف أحياناً في بعض المواضع قد تُستملح ويستأنس بها، ولكن يبقى أن طالب العلم يراعي جوانب أخرى.
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ، هذا الغلام هو إسحاق، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وما خالف في هذا إلا النادر مثل مجاهد، والدليل على أنه إسحاق من عدة وجوه: أنه في الآية الأخرى قال:فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ[سورة هود:71].
وأم إسماعيل هاجر كانت في مكة، وجاءت بإسماعيل أولاً، فحصلت الغيرة كما هو معروف وكانت أم إسحاق سارة لا تلد، ثم بعد ذلك جاءها الولد، فهذه القصة،عَجُوزٌ عَقِيمٌ هذه التي لا تلد لم تكن هاجر، هاجر لم تكن كذلك، فهذا إسحاق، أما الذبيح فهو إسماعيل.
جاءت في صرة، أقبلت في صرة، صيحة، وفعلت فعلاً معها يدل على تعجبها وهو أنها لطمت وجهها، صكت وجهها، والصك هو الضرب بالشيء بعرضه،فَصَكَّتْ وَجْهَهَا سواء قيل: إنها لطمت جبينها أو ضربت وجهها وضربت خدها، فهذا كله لا يتنافى، فمن ضرب جبينه فهذا جزء من الوجه، يصح أن يعبر عنه بالوجه، وصكت وجهها تعجباً.
وهي قولها: يَا وَيْلَتَا فَصَكَّتْ وَجْهَهَا أي: ضربت بيدها على جبينها، قاله مجاهد وابن سابط.
وقال ابن عباس -ا-: لطمت، أي تعجباً كما تتعجب النساء من الأمر الغريب، وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي: كيف ألد وأنا عجوز عقيم، وقد كنتُ في حال الصبا عقيما لا أحبل؟.
- [1] - رواه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، برقم (2038)، ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رُئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرماً له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، برقم (2175).