ثم قال :وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ[سورة الذاريات:41] أي: المفسدة التي لا تنتج شيئًا، قاله الضحاك، وقتادة، وغيرهما.
ولهذا قال تعالى:مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ[سورة الذاريات:42] أي: مما تفسده الريحإِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي: كالشيء الهالك البالي.
قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله:إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ قالوا: هي الجنوب.
فقوله -تبارك وتعالى-:وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَالريح العقيم يعني التي لا تكون ممطرة، لا تسوق المطر ولا تلقح النبات ولا ينتفع بها، وذكرنا قبلُ أن الريح أنواع فمنها ما يأتي للعذاب كهذه الريح العقيم،مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ يعني التقدير ما تذر من شيء أتت عليه مما سيقت لإهلاكه إلا جعلته كالرميم، لكنها لم تجعل الجبال كذلك مثلاً، وهذا معلوم، فهذا العموم يحمل على ما يناسبه ويصلح له في المعنى، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، وهو الذي يسميه الشاطبي -رحمه الله- بالعموم الاستعمالي، لا يحتاج إلا مخصص، والأصوليون يجعلون المخصص في هذا هو الحس، وهذا لا يخلو من إشكال عند التأمل، فأنت تقول: أنا زرت البلاد، ولبست الثياب، وأكلت الطعام، ورأيت العباد وما أشبه ذلك، وأنت لم ترَ كل الناس ولم تلبس كل الثياب ولم تأكل كل الطعام، وحينما تقول: الناس يحبون كذا، والناس يريدون كذا، والناس يقولون كذا، ما يأتي لك متفلسف ويقول: أنت قابلت كل الناس ووزعت استبانة على جميع المخلوقين -جميع البشر- في مشارق الأرض ومغاربها؟، لماذا لا تتقيد بألفاظك وتدقق؟، هذا كلام غير صحيح، هذه فلسفة، فالعرب تفهم من خطاب من خاطبها مراده في كل شيء بما يناسبه ويصلح له،لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه[1] كما قال، فلربما هو من هذا القبيل، وكذلك أيضاً أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ثم ذكر صفتها بأنها ما تأتي على شيء من الأشياء التي سيقت لإهلاكها وإزالتهامَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، وهذا من أقوى صيغ العموم، "شيء" نكرة في سياق النفي مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ والنكرة إذا سبقت بمن فإن ذلك ينقلها من حيز الظهور في العموم إلى حيز التنصيص الصريح في العموم، فهذه من أقوى صيغ العموم، النكرة في سياق النفي مسبوقة بمن، والرميم هو الشيء البالي، رم العظم بمعنى بلي، وبعضهم فسره بما ديس من النبات، بما يداس من النبات، كما يقول كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله-، وبعضهم يقول: هو الرماد، وبعضهم يقول: هو النبات المدقوق، وهذه المعاني لا تتنافى، فهي حصدتهم حصداً فجعلتهم كالرميم، أي الأجزاء البالية كالنبات الذي تهشم وديس أو الرماد أو نحو ذلك، رميم، كما هو مشاهد، انظر مثلاً الطوفان هذا الذي حصل في شرق آسيا، انظر إلى بيوت الناس، والناس معها كيف صاروا؟ صاروا كالرميم، سوى بهم الأرض، واختلطت جثث الناس مع قطع الأخشاب الصغيرة وبقايا البناء فأصبحت البلاد مدكوكة دكاً، مفتتة،مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ –حصْد- إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ .
قلنا: الصَّبا الريح التي تأتي من المشرق، والدبور من المغرب.
- [1] - رواه البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم (7068).
- [2] - رواه البخاري، أبواب الاستسقاء، باب قول النبي ﷺ نصرت بالصبا، برقم (1035)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).