السبت 21 / صفر / 1447 - 16 / أغسطس 2025
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُو۟لَٰٓئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى ٱلزُّبُرِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال:أَكُفَّارُكُمْ أي: أيها المشركون من كفار قريش خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ يعني: من الذين تقدم ذكرهم ممن أُهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب: أأنتم خير أم أولائك؟ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي: أم معكم من الله براءة ألّا ينالكم عذاب ولا نكال؟.

ثم قال تعالى مخبرا عنهم: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي: يعتقدون أنهم مناصرون بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء، قال الله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: سيتفرق شملهم ويغلبون.

هنا ذكر ثلاثة أشياء في الرد عليهم أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ يعني: إما أنكم أفضل من هؤلاء فتحصل لكم السلامة من العذاب أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ، والأمر الثاني:أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ والزبر هي الكتب، وإما أن الله أعطاكم ضماناً وعهداً ألا يعذبكم، فالأول منتفٍ، والثاني منتفٍ، بقي الثالث: أن تكون لكم قوة تخلصكم من عذاب الله إذا نزل بساحتكم،أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- "أي: يعتقدون أنهم مناصرون بعضهم بعضاً، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء"، يعني: كأنهم يقولون:نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ، نحن جماعة لا تطاق جمع كبير لا نطاق، لا نغلب لكثرتنا وقوتنا، أو أن أمرنا مجتمع فلا نغلب نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ومعنى منتصر أي منتصرون، وكذلك قوله تعالى:سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ هذه الآية مكية فسورة القمر من السور النازلة بمكة، وفي مكة لم يكن هناك جمع، ولربما لا يخطر في بال أحد في ذلك الوقت أنه سيلتقي الصفان وتحصل معركة، وإنما هم أفراد مضطهدون يعذبون في دينهم، والله يقول: سيهزم الجمع فمثل هذا كان يتساءل عنه مثل عمر أيّ جمع؟ فالآية تتحدث عن أمر مستقبل كما هو ظاهر من قوله:سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ فإن "السين" تدل على هذا المعنى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، وهذا مما نزل قبل وقوعه لقوله تعالى:الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ[سورة الروم:1-3]، ولما كان في يوم بدر نزلت:الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ "غُلبت" بالبناء لغير المعلوم، وكانت غلبة الروم بالفرس في يوم بدر.

قوله:سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يعني يولون الأدبار وهذا تكني به العرب عن الهزيمة، فالمنهزم يعطي ظهره لعدوه ولهذا يفتخر من يفتخر بأن جراحهم تقع في صدورهم لا تقع في ظهورهم وأن دماءهم تنزل على أقدامهم لا على أعقابهم كما قال الشاعر: وهو ما تمثل به ابن الزبير حينما أصيب في وقعة الحجاج لحصاره لابن الزبير :

ولسنا على الأعقاب تَدْمَى كُلومُنا[1] ولكنْ على أقدامنا تَقْطُر الدِّما

 لما وجد حرارة الدم حينما ضُرب أصيب في رأسه ونزل الدم قال:

ولسنا على الأعقاب تَدْمَى كلومُنا ولكن على أقدامنا تَقطُر الدِّما

 فالدبر هنا مفرد وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ والمراد به الجمع، أي يولون الأدبار،وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ[سورة الفتح:22] وذكرنا من قبل أن المفرد قد يأتي معبراً به عن الجمع كقوله تعالى:أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء[سورة النور:31] يعني: أو الأطفال.
 

روى البخاري عن ابن عباس -ا-: أن النبي ﷺ قال -وهو في قبة له يوم بدر-:أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول:سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ۝ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[2].

وروى البخاري عن يوسف بن ماهَكَ قال: إني عند عائشة أم المؤمنين، قالت: نزل على محمد ﷺ بمكة -وإني لجارية ألعب- بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ هكذا رواه هاهنا مختصراً[3]، ورواه في فضائل القرآن مطولا، ولم يخرجه مسلم.

 

  1. يعني جراحنا.
  2. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبيﷺ والقميص في الحرب، برقم (2758)، وبرقم (4594)، في كتاب التفسير، باب تفسير سورة القمر.
  3. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة القمر، برقم (4595)، و(4707)، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن.