قال المفسر-رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ[سورة الرحمن:14-25].
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو طرف لهبها، قاله الضحاك، عن ابن عباس -ا-، وبه يقول عكرمة، ومجاهد، والحسن، وابن زيد.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس:مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ من لهب النار، من أحسنها.
فقوله -تبارك وتعالى-:خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ لم يذكر تفسيرها هنا! والصلصال هو الطين، وبعضهم فسره بالطين اليابس الذي له صوت، وأقوال أهل العلم في هذا متقاربة في جملتها، وأكثرهم يقولون: طين يابس له صلصلة، وبعضهم يقول: هو طين خلط برملمِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وبعضهم يقول: طين منتن متغير، وهذا الوصف -أنه منتن متغير- يمكن أن يؤخذ من آية أخرى مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ[سورة الحجر:26] طين متغير من طول المكث، كما في قوله تعالى:وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ[سورة الكهف:86] يعني متغيرة منتنة، فأما هنا مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ هذه الجملة لا تدل على التغير، وأنها طين منتن، وإنما ذكْرُ الفخار أخذ منه بعض أهل العلم أن له صوتاً إذا ضُرب، وهذا لا يعارض قول من قال: إنه خلط مثلاً برمل فهذا قد لا يخرجه عن وصف الطين، وهكذا قول من قال: إنه الطين اليابس الذي لم يطبخ؛ لأنه إن لم يطبخ كان يابساً فله صوت، فإن طبخ فهو فخار، فهنا قال:كَالْفَخَّارِ، والفخار هو الخزف المطبوخ، يعني الطين إذا عرض على النار صار فخاراً، مثل الجِرار ونحو ذلك، والله ذكر أطوار خلق الإنسان، وهذا في خلق آدم ، وأما الذرية فهي من نطفة، فالله ذكر أطوار خلق الإنسان، وفي وصف خلقه الأول أخبر أنه خلقه من تراب كما في عدد من الآيات، وذكر الله تعالى أنه خلق الإنسان من طين في عدد آخر من الآيات، وفي بعضها مِّن طِينٍ لَّازِبٍ[سورة الصافات:11]، وفي بعضها مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وفي بعضها مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، ووجه الجمع بين هذه الآيات: أن هذا التراب خلط بالماء فصار طيناً ثم ترك فتغير فصار حمأً مسنوناً ثم صار يابساً فصار صلصالاً كالفخار، فهذه الآيات لا منافاة بينها، فهي أطوار مر بها، هذا هو التراب -والله تعالى أعلم-، وأما قوله -تبارك وتعالى-:وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فقال: هو طرف لهبها، وذكر أيضاً قول من قال: إنه من أحسنها يعني الصافي من النار، وهذا من اختلاف التنوع حينما يقول: من طرفها أو من الصافي منها أو نحو ذلك، أو بعضهم يقول: هو ذو الألوان أزرق وأخضر وأحمر، أخلاط،مِن مَّارِجٍ،مَرَجَ الْبَحْرَيْنِقد مرجت عهودهم يعني تداخلت واختلطت، فالمارج يوصف بهذه الأشياء، المارج من النار هو أعلاها، هو ذو الألوان، هو الصافي منها مثلاً، وابن جرير -رحمه الله- فسره بما اختلط بعضه ببعض في أعلى النار، يعني هو الذي يكون بمثابة لهب النار أو لسان النار مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فأخذ من لفظة المارج الاختلاط، مختلط.
وروى الإمام أحمد عن عائشة -ا- قالت: قال رسول الله ﷺ:خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم[1]، ورواه مسلم.
وقوله:فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تقدم تفسيره.
يقول: معنى كل جملة من هذه ترتبط بما قبلها، فليس هذا تكراراً محضاً، وقوله:مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍأخذ منه بعض أهل العلم -وهو أصل الخلق، من النار أصلاً- أن هذا أيضاً فيه خفة، وأن خلق الجن فيه هذه الصفة –الخفة- فهي ملازمة لهم بخلاف الطين ففيه رزانة فقالوا: إن الإنس أفضل من الجن من حيث أصل الخلقة، ولذلك ردوا على إبليس في القياس الفاسد:قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ[سورة ص:76] ردوا عليه من وجوه متعددة منها: أن الطين فيه رزانة ومَّارِجٍ مِّن نَّارٍفيه خفة واضطراب، وذلك معروف أن الجن فيهم خفة، والمقصود به خلاف الرزانة، ففيهم خفة وطيش وظلم، وذكروا أشياء أخرى من أن الشيء يوضع في النار فيحترق، والحبة توضع في النار فتحترق، وتوضع في الطين فتخرج نخلة، ومن شأن الطين التماسك، ومن شأن النار الإتلاف.
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة، برقم (2996)، وأحمد في المسند، برقم (25194)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.