أرسلهما باعتبار أن أصل هذه اللفظة تدل على التخلية مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما خلّاهما يلتقيان.
وقوله:يَلْتَقِيَانِ قال ابن زيد: أي: منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
والمراد بقوله:الْبَحْرَيْنِ الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى:وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا[سورة الفرقان:53].
هذا لاشك أنه تفسير للقرآن بالقرآن مبيناً للمراد، و العلماء -رحمهم الله- في معنى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ منهم من قال: العذب والملح والآية هذه تبينه وهذا لاشك فيه، ومنهم من قال:مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ الملح والملح يعني تقول مثلاً: المحيط وماء الخليج، فهو بحر وهذا بحر، تلتقي البحار مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ تحتمل هذا أيضاً، وفي الكشوف الحديثة في علوم البحار ذكروا ما يؤيد هذا المعنى، وذكروا أشياء حسنة في هذا الباب، وإن كان كلامهم فيها متنوعاً، يعني ففي معنى بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ خمسة أقوال في الحاجز، وكلها فيما أظن لا تختلف ترجع إلى شيء واحد، كل هذا يمكن أن يكون متحققاً، فمن ذلك أن البحر مع البحر بينهما حاجز من الماء له خصائص أخرى، وله كائنات تعيش فيه غير التي تعيش في هذا أو هذا، برزخ من الماء حاجز، والبحار تختلف، فمن أشد البحار ملوحة هذا الخليج مثلاً، فإذا أصاب الماء عين إنسان فإنه يتأذى به، بينما لو سبح إنسان في المحيط الهادي أو نحو هذا من المحيطات الكبار لا تجد هذا إطلاقاً، ولذلك تلك البلاد على هذه المحيطات يوجد على شواطئها مالا يحصيه إلا الله من أنواع الأشجار المثمرة، تخرج طبيعة هكذا، الله يخرجها بدون زرع الإنسان، جوز الهند والمانجو وأشياء كثيرة على شاطئ البحر شواطئ خضراء، وجزر خضراء، فالبحار لا تختلط، ولم تكن شيئاً واحداً عبر السنين؛ لأن الله جعل لهذا خصائص ولهذا خصائص، وهذا له كائنات تعيش فيه، وهذا له كائنات تعيش فيه، هذا له طبيعة، وهذا له طبيعة، ونسبة ملوحة كذلك، يوجد منطقة تحجز وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا فهذا إذا قيل: في البحر الملح مع الملح فهو معنى صحيح، وإذا ذكر هذا في البحر العذب –الأنهار- مع البحر الملح حينما تختلط به مصبات الأنهار فهذا كذلك، والعلم الآن يقرر هذا؛ لأن هذا الماء الذي يصب في الملح يبقى، كذلك العيون الجارية في وسط البحر في أسفله توجد عيون للماء، والناس يعرفونها حتى قبل هذه العلوم الحديثة؛ لأنهم كانوا يشتغلون بطرق بدائية في الغوص، يعرفون مواضع العيون في البحار، وينزلون ويستقون منها ويملئون القِرب وهم في وسط البحر، العلم الحديث يقرر أن هذه العيون حينما تصب: أن هذا الماء لا ينتهي -ويتحلل الماء العذب- وإنما يبقى في ممرات يجري كما يجري على اليابسة، فهذا معنى -إذا ثبت- داخل في العموم مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، وهذا لا يخالف قول من قال بأن الله أجرى هذه الأنهار السارحة على وجه الأرض، وجعلها في خندق، في خنادق مثل الوديان، وماء البحر الذي جعله الله في مواضع لا يتغير منها عادة، فالبحر في مكانه منذ مائة سنة، منذ مائتي سنة، منذ ألف سنة هذا هو البحر، فما خرج هذا على هذا، وهذا على هذا واختلطت المياه، لا، الأنهار باقية والبحار باقية منذ عهود متطاولة، وفرعون يقول:لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي[سورة الزخرف:51]، يعني نهر النيل، فهو موجود منذ ذلك الحين، وقبل ذلك الحين، وإلى الآن لازال ماشياً في مجراه، فالبحر بحر، والنهر نهر بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ من اليابسة،لَّا يَبْغِيَانِ فهذه المعاني كلها داخلة -والله أعلم- في هذا المعنى، وهذه الأشياء التي تذكر مما يثبت علمياً مما يذكرون من تفسير بعض ألوان هذا البرزخ هي من باب زيادة الفهم، ولا تعارض أقوال السلف إطلاقاً، ولا تعارض ظاهر القرآن، ويمكن أن تذكر في التفسير، وفيه قول آخر بعيد عن هذا والعجيب أنه اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- قال: بحر السماء وبحر الأرض،مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، ثم قال:يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ من مجموعهما قال: كما أن الولد يخرج من ماء الرجل وماء المرأة، فهذا من ماء السماء وماء الأرض اللؤلؤ، باعتبار أن العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن المطر إذا نزل بحر السماء يعني السحاب فإذا نزل المطر على البحر في وقت معين يعني الآن مثل الحين فترة الموسم إذا نزل المطر هذه الأيام خرج "الكَمْأ" وخرجت ألوان من النباتات لا تخرج في المطر الذي ينزل في غير وقت الموسم، يعني هناك مطر الصيف، وهناك مطر آخر في الشتاء ينزل وتخرج منه بعض أنواع النباتات، لكن كثير من النباتات لا تخرج إلا في مطر الموسم، المطر إذا نزل على البحر في وقت الموسم انعقد منه اللؤلؤ، هذا الذي ذكره كثير من أهل العلم، يقول: ينعقد بنزول قطرات المطر على البحر فيحصل تلقيح اللؤلؤ، ويخرج كما يخرج "الكَمْأ" في الصحراء، وهذا يذكر لبعض الناس الذي قد يتساءل يقول: هذه أمطار هائلة تنزل على البحار، فماذا تستفيد البحار منها؟ والناس يعيشون في قحط؟ فيقال: كل شيء بحكمة كل شيء بمقدار، فالماء الذي ينزل على البحر ينعقد منه اللؤلؤ فيستخرج منه الناس حلية هذا الذي ندركه، وكذلك أمر آخر هو أن الماء ينزل على البحر، والبحار تتبخر منها كميات هائلة كل سنة، ويصير المطر فلو بقي هذا التبخر عبر السنين لصارت البحار في غاية الملوحة حيث لا تعيش فيها الكائنات الحية، وتغير نظامها، فينزل عليها من الماء العذب ما يعوض ذلك، ويبقى هذا التوازن مستمراً حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ[سورة القمر:5] هذا الذي يظهر ويدرك أما الأشياء التي لا تدرك فالله أعلم بها، والبحار مليئة بأنواع النباتات المعروفة والأعشاب، والكائنات، فهل هذه الكائنات والنباتات لا تستفيد من ماء المطر الذي ينزل على البحر؟!