قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ[سورة الرحمن:41] أي: بعلامات تظهر عليهم.
وقال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.
قلت: وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
وقوله:فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ أي: تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، ويلقونه في النار كذلك.
وقال الأعمش عن ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.
وقوله:هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ أي: هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانًا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا.
وقوله:يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطّع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى:إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر:71-72].
وقوله: آنٍ أي: حار وقد بلغ الغاية في الحرارة، لا يستطاع من شدة ذلك.
قال ابن عباس في قوله:يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قد انتهى غلْيه، واشتد حرّه، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي.
وقال قتادة: قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض، وقال محمد بن كعب القرظي: يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس، وهي كالتي يقول الله تعالى:فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ، والحميم الآن: يعني الحار، وعن القرظي رواية أخرى:حَمِيمٍ آنٍ أي: حاضر، وهو قول ابن زيد أيضا، والحاضر لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار، كقوله تعالى:تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ[سورة الغاشية:5] أي حارة شديدة الحر لا تستطاع. وكقوله:غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ[سورة الأحزاب:53] يعني: استواءه ونضجه، فقوله:حَمِيمٍ آنٍ أي: حميم حار جداً، ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال ممتنا بذلك على بريته:فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.
فقوله -تبارك وتعالى-:يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ نقل عن الحسن وقتادة: أي بسواد الوجوه وزرقة العيون، فهذا مما يعرفون به، وهناك بعض الأوصاف الأخرى التي ذكرها الله ، من صفاتهم في البعث والمحشر ما يرهقهم من الذل، والله يقول:وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا[سورة يونس:27] من شدة الذل، وأخبر عن ذلك أيضاً بخشوعهم وسكون جوارحهم وخشوع أبصارهم كل هذا من العلامات التي يعرفون بها خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ[سورة الشورى:45]،يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ[سورة آل عمران:106]،فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ، وقوله هنا:يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ[سورة الرحمن:44]، كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الجمع بين القولين: آنٍ أي متناهٍ في الحرارة، والقول الآخر: أي قد نضج،غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ[سورة الأحزاب:53] أي نضجه، من الآداب التي أدب الله بها المؤمنين أن لا يطيلوا المكث عند رسول الله ﷺ فيأتوا قبل تهيئته للقياهم وقبل نضج الطعام الذي جاءوا من أجله ودعوا إليه، أو أن يجلسوا بعد ذلك يستأنسون بالحديث، فجمع بين القولين غير ناظرين إناه قال هنا:يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ أي حاضر وحار متناهٍ في الحرارة، فهذا من أحسن ما يكون في التفسير، وهذه هي الطريقة الصحيحة؛ وذلك لأن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر وكل معنى منها يشهد له القرآن أو السنة أو أن ذلك صحيح في كلام العرب ولا يوجد ما يمنع من حملها على الجميع فإن هذه المعاني تجمع، وهذا يوجد كثيراً في مثل هذا الكتاب، وأيضا في مثل تفسير ابن جرير وكلام الحافظ ابن القيم، وكلام شيخ الإسلام وفي مثل: "أضواء البيان" فهذه من أجلّ كتب التفسير.