وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ[سورة الرحمن:46-53].
يقول تعالى: ولمن خاف مقام ربه بين يدي الله ، يوم القيامة،وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات:40]، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان.
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ هذه الجملة تحتمل معنيين احتمالا قريباً، المعنى الأول وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: خاف مقامه بين يدي ربه،وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا [سورة الأنعام:27-30]، فهم يقفون على النار، ويقفون بين يدي الله للحساب خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: خاف مقامه بين يديه هذا معنى تحتمله الآية، وهو اختيار ابن القيم -رحمه الله-، والمعنى الثاني خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: في اطلاعه عليه، قيام الرب -تبارك وتعالى- على العبد، الحي القيوم فمن معاني القيوم القائم بنفسه، المقيم غيره، القائم على خلقه في أرزاقهم وأقواتهم وآجالهم وأعمارهم كل هذا داخل تحت القيوم،خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ يعني قيام ربه "المَقام" اسم مصدر أي قيام ربه عليه وإشرافه، واطلاعه على أحواله وأعماله كلها فراقبه، وخافه، وحاسب نفسه كقوله تعالى:أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ[سورة الرعد:33] وهذه الآية كقوله تعالى:ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ[سورة إبراهيم:14]،خَافَ مَقَامِي[سورة إبراهيم:14] يعني قيامي عليه واطلاعي عليه، وتحتمل المعنى الآخر أيضا "مقامي" أي قيامه بين يديّ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[سورة النازعات: 40] ويمكن أن تحمل الآية على المعنيين خاف مقامه بين يدي الله ، وخاف أيضا مقام ربه أي قيام ربه عليه، واطلاعه على أحواله كلها، والشيخ محمد الأمين -رحمه الله- في الأضواء جمع بين المعنيين، فسر الآية بالمعنيين.
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ خاف الله خاف قيامه بين يدي الله، خاف من ربه؛ لأنه مطلع عليه،جَنَّتَانِ له جنتان، قال بعض أهل العلم:وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ جنة للخائف من الإنس، وجنة للخائف من الجن! وهذا فيه بُعد، ومنهم من يقول: له جنتان جنة عدن، وجنة النعيم، هذه جنات للخائفين، وهذا اجتهاد من قائله، ومنهم من يقول: الجنة هي البستان كما هو معروف في كلام العرب فله جنتان الجنة الأولى يعني كل إنسان له مقعد في الجنة، ومقعد في النار، فإذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ توارثوا مقاعد أهل النار في الجنة، وإذا دخل أهل النارِ النارَ توارثوا مقاعد أهل الجنة في النار، كما جاء في الحديث عن عبدالله بن عمر ا: أن رسول الله ﷺقال:إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة [2]، يعني آمنتَ وعملت صالحاً، وهكذا يقال للمؤمنين:هذا مقعدك من النار...، فيتوارث أهل الجنة مقاعد أهل النار، وأهل النار يتوارثون مقاعد أهل الجنة، وهذا من أعظم التغابن الذي أشار إليه قوله -تبارك وتعالى-:ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ[سورة التغابن:9] هؤلاء يتوارثون مقاعدهم في الحميم والغسّاق، وهؤلاء يتوارثون مقاعدهم بالنعيم واللذة والحبور، فهذا من التغابن، فالحاصل أن الله يقول:وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ هذا قول، والقول الأول يجري باعتبار أن الجنتين لهذا الخائف، يعني لكل خائف جنتان وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ يكون له ذلك، والآية تحتمل معنى آخر، وهذا تفسير من فسرها -والله أعلم-، بجنة عدن مثلاً، وجنة النعيم أي للخائفين جنتان بحسب خوفهم وأعمالهم، فمنهم من يكون في جنة تكون أعظم نعيماً، ومنهم من يكون في جنة أخرى دونها كما سيأتي في وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ[سورة الرحمن:62]، لكن قد يكون القول الأول أولى منه لأنك إذا تأملت الآيات وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، ثم قال بعد ذلك في صفتهما:ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ثم ذكر في صفتهما أيضا فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، ثم ذكر حالهم مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ[سورة الرحمن:54-55]، ثم قال:فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ[سورة الرحمن:56] إلى أن قال:وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ، فالمرتبتين: الأولىوَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِثم ذكر أوصافها، والثانية التي دونهاوَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِثم ذكر أوصاف الجنة الثانية -أوصاف الجنتين الثانيتن-، يعني في المرتبة الثانية، وسيأتي في المقارنة بين هذه وهذه أن الأولى أرفع وأكمل في النعيم في كل شيء من الثانية، ومعروف أن أهل الجنة يتفاوتون، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث:جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب..، فجنان الذهب أكمل من جنان الفضة، فهذا هو الذي حمل بعض أهل العلم إلى القول بأن التثنية هنا غير مرادة، وإنما على طريقة العرب حيث يعبرون بالمثنى عن المفرد أحيانا أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ[سورة ق:24]، وبعضهم قال: هذا ليس خطاب التثنية، الخطاب لواحد، وهذا يحتاج إلى مناقشة أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ، يقولون كما تقول العرب: "افعلا ذلك" ويقصدون به الواحد، والخطاب للمثنى "اضربا عنقه" يعني اضرب عنقه، فالحاصل أن هذا لا يظهر هنا إطلاقاً، يعني وإن كان الاحتمال له وجه من النظر في سورة ق إلا أنه يستبعد هنا؛ لأن كل الأوصاف بالتثنية ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، لما قال:ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، وقال:فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ،فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فهذا يدل -والله تعالى أعلم- على أنهما جنتان حقيقة، وهذا في الدرجة العليا جنتان من فضة هذه مرتبة، وأعلى منها جنتان من ذهب، قال:جنتان من ذهب ، والله تعالى أعلم.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وكثير من المفسرين يتحدثون عن هذه القضية في هذا الموضع، والسبب أنه يوجد من أهل العلم من قال: إن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ولا ينعمون، وإنما ينجون من النار فقط، والكفار منهم يدخلون النار، والذي استدلوا به على أن الجن لا يدخلون الجنة آية من القران هيوَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف:31]، ولم يقل: يدخلكم الجنة لكن الآيات لا تفهم بمفردها، وإنما في مقامٍ ناسب أن يقول:وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، وهنا ذكر وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ والآيات التي بعدها تدل على أن الجن الصالحين منهم من يدخلون الجنة، ولم يصح أبداً عن الني ﷺ دليل واحد على أنهم لا يدخلون الجنة، ورد عن بعض السلف في هذا المعنى بعض الآثار، ولكن العبرة بقال الله، قال رسوله.
ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال:وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .
ثم نعت هاتين الجنتين فقال:ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي: أغصان نَضِرَة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة،فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، هكذا قال عطاء الخرساني وجماعة: إن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضُها بعضا.
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ قال: أي أغصان، والأفنان بهذا الاعتبار تكون جمع فَنَن وهو الغصن، والأفنان هي الأغصان واحدها فنن،ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي ذواتا أغصان، ويمكن أن يكون أفنان جمع "فن" بمعنى النوع والصنف، يعني تكون ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي ألوان لها أشكال، وصنوف من الثمار، فهذه الآية تحتمل هذا وهذا، وبعضهم فسرها بمعنى ثالث ذَوَاتَا أَفْنَانٍ قال: فضل وسعة يتبين به فضلها عما سواها، وبعضهم فسر الأفنان بظل الأغصان لكن المشهور هو الأول الذي عليه عامة أهل العلم ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي أغصان جمع فنن وهو الغصن، والقول الثاني اختاره ابن جريرذَوَاتَا أَفْنَانٍ يعني الصنوف والأنواع جمع فن، تقول: فنون الكلام يعني ضروب الكلام، أنواع الكلام فنون الكتابة فنون الثمار، فنون يعني الصنوف والأنواع، وبعض العلماء يقول: الفنن هو الغصن المستقيم، ولذلك انظر الجنة التي بعدها -وسيأتي في المقارنة بينهما- قال:وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ[سورة الرحمن:62] وذكر أنهما مُدْهَامَّتَانِ[سورة الرحمن:64]، قال: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ[سورة الرحمن:66]، وسيأتي في الكلام فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ[سورة الرحمن:68]،فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ[سورة الرحمن:70]،حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ[سورة الرحمن:72] إلى آخره، فالحاصل أن الأغصان هنا ذكرها ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، قال بعضهم: أي أن أغصانها ممتدة، وتلك وصفها بشدة الخضرة مُدْهَامَّتَانِ تضرب إلى السواد من شدة الارتواء.
وقوله:ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي: أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة الجملة هذه قصد بها الجمع بين معنيين، وهذا مما تميز به تفسير ابن كثير -رحمه الله.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرحمن، برقم (4597)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (180)، وابن ماجه، كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهيمة، برقم (186)، وأحمد في المسند، برقم (19682)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط البخاري.
- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشي، برقم (1313)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2866).