وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ[سورة الرحمن:62-78].
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن، قال الله تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ.
قال:وَمِنْ دُونِهِمَا لفظة دون تشعر بأن هاتين الجنتين أقل في المرتبة من اللتين قبلهما،وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ كما في الحديث الذي ذكره:جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة[1]، والفضة دون الذهب، فعلى هذا تكون المراتب أن الجنتين الأولييْن للسابقين، وهاتين الجنتين لمن دونهم، ومعلوم أن أهل الجنة كما قال الله : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ[سورة فاطر:32]، فهم على المراتب الثلاث، قيل: بدأ بالظالم؛ لأن أكثر أهل الجنة من الظالمين لأنفسهم أصحاب الذنوب، وقيل: بدأ به؛ لئلا يقنط، وهذا الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن قوله:وَمِنْ دُونِهِمَا يعني في المرتبة بمعنى أنها أقل، ومن أهل العلم من فهم عكس هذا، قال:وَمِنْ دُونِهِمَا أي في القرب إلى العرش؛ ولهذا قال بعض السلف: إن الجنتين الأولييْن جنة عدن وجنة النعيم، وأما الأخرييْن التي قال فيها هنا:وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فهما الفردوس والمأوى هناك عند سدرة المنتهى قال:عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى[سورة النجم:5] فعلى كل حال هذا بناء على ماذا من قال: إن هذا المقصود به الفردوس؟ بناء على أن وَمِنْ دُونِهِمَا يعني في القرب من العرش أقرب إلى العرش، لكن المعنى الأول هو المتبادر -والله تعالى أعلم-، والآن هي أربع جنات: جنتان وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ[سورة الرحمن:46] كما قال النبي ﷺ:جنتان من ذهب،وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ أيضاً، ويبقى النظر هل المقصود بذلك أن الجنان أربع يشترك فيها الناس ويدخلونها؟ كل له قصوره، وله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يعني هل المقصود بيان الجنان التي يدخلها أهل الإيمان في الآخرة أنها أربع جنان؟ جنتان من ذهب وجنتان من فضة؟ أو أن المقصود أن أهل الجنة بحسب مرتبتهم يكون لكل واحد جنتان، بستانان، الجنة تطلق على البستان فقد يراد بها جنس الجنة، يقال: الجنة هي مأوى المتقين أو المقصود لكل واحد، يعطى كما ذكرنا قول من قال مثلاً بأن واحدة هي مقعده الذي أعد له، والأخرى ما ورثه من محل الكافر، فله بستانان أو أن إحداهما بعمله الطاعات، والأخرى بتركه للمعاصي مثلاً كما يقول بعض السلف، -والله تعالى أعلم- لكن الآية تحتمل هذا، وقد يفهم من ظاهرها أو قد يشعر أن لكل واحد جنتين،وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فالكلام على الخائف يكون له جنتان، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، والآية تحتمل، فالله أعلم.
وقد تقدم في الحديث:جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين.
وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين.
والدليل على شرف الأولييْن على الأخرييْن وجوه: أحدها: أنه نعت الأولييْن قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال:وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ.
هنا ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عدة أوجه لتفضيل الجنتين الأولييْن على الجنتين الأخرييْن، وحديث أبي موسى هذا واضح في هذا المعنى، وفي لفظ في الصحيحين:جنات الفردوس أربع جنات جنتان من ذهب......[2] إلى آخر ما ذكر، هذا في جنات الفردوس، ابن كثير -رحمه الله- في هذا الكلام الآن يذكر وجوه ترجيح الجنتين الأوليين على الجنتين الأخريين، وابن القيم -رحمه الله- ذكر عشرة وجوه استنبطها من المقارنة بين هذه الأوصاف، وكثير مما ذكره ابن القيم -رحمه الله- مشابه لكلام ابن كثير، يعني وجوه الترجيح عند ابن كثير -رحمه الله-: الوجه الأول أنه قدم وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال:وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ.
وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني.
هذه وجوه المقارنة قال: أحدها أنه نعتَ، والثاني ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، وهكذا الثالث والرابع والخامس والسادس لم يعددها بهذه الطريقة، ذكر الأول فقط، وسيذكر الآن وجوه المقارنة
وقال هناك:ذَوَاتَا أَفْنَانٍ : وهي الأغصان أو الفنون في الملاذّ، وقال هاهنا:مُدْهَامَّتَان أي سوداوان من شدة الري.
قال ابن عباس في قوله:مُدْهَامَّتَان قد اسودتا من الخضرة، من شدة الري من الماء.
وقال محمد بن كعب:مُدْهَامَّتَان: ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة: خضراوان من الري ناعمتان. ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض.
يعني يقول من الناحية الجمالية: إن الشجر الذي تظهر أغصانه يكون أجمل وأبهى خاصة من فسر الأغصان بأنها الأغصان المستقيمة الممتدة، وأن الأفنان جمع فنن، وهو الغصن يقول: قد اسودتا من الخضرة، يقال للعراق مثلاً: سواد العراق؛ لشدة الخضرة وكثرة النخيل فيه، وهذا شيء مشاهد إذا ذهبت إلى البلاد التي تكثر فيها الخضرة جداً في الطائرة تراها سوداء، إذا كنت على ارتفاع يمكّنك من الرؤية تظن أنها حرّة سوداء الآن لو ذهبت إلى جزر أندونيسيا مثلا تراها من أعلى سوداء تظنها حرة سوداء من شدة الخضرة، الحين الذي لا يعرفها يظن أنها بلاد سوداء، حرة سوداء مثل التي حول المدينة، من شدة خضرتها تبدو سوداء.
النضخ هو فوران الماء من العين، تنضخ تفور من العين وهو أكثر من النضح، النضخ أكثر من النضح، وهناك قال:فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ عيون سارحة فقد تنضخ العين ولكنها لا تكون بهذه المثابة عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ.
وقال الضحاك:نَضَّاخَتَان أي ممتلئتان لا تنقطعان.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرحمن، برقم (4597)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (180).
- رواه الدارمي في سننه، برقم (2822)، وقال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف لضعف أبي قدامة الحارث بن عبيد، وابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (34109).