وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ[سورة الواقعة:27-40].
لما ذكر تعالى مآل السابقين -وهم المقربون- عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين -وهم الأبرار- كما قال ميمون بن مِهْرَان: أصحاب اليمين منزلة دون المقربين، فقال: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ أي: أي شيء أصحاب اليمين؟ وما حالهم؟ وكيف مآلهم؟ ثم فسر ذلك فقال:فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وأبو الأحوص، وقسَامة بن زُهَير، والسَّفر بن نُسَير، والحسن، وقتادة،وعبد الله بن كثير، والسُّدِّيّ، وأبو حَرْزَة، وغيرهم: هو الذي لا شوك فيه، وعن ابن عباس: هو المُوقَر بالثمر، وهو رواية عن عِكرمة، ومجاهد، وكذا قال قتادة أيضا: كنا نُحَدِّث أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه.
والظاهر أن المراد هذا وهذا، فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر، وفي الآخرة على عكس من هذا لا شوك فيه، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله، كما قال الحافظ أبو بكر بن سلمان النجّاد.
قوله:فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ القرآن حينما يتحدث عن نعيم الجنة أو حينما يخاطب من يخاطبهم فإنما يخاطبهم بمعهودهم ولا يخاطبهم بما لا عهد لهم به، فحينما يذكر آيات الله يذكر لهم الجمل، والجبل، والسماء، والأرض، والمطر وما إلى ذلك مما يشاهدون، وهناك أشياء كثيرة في أعماق البحار وتحت الأرض وفوق الأرض تدل على عظمة خلق الله ودقته وبديع صنعه لم يخاطبهم بها، والسبب في ذلك-والله أعلم- أنه لا عهد لهم بذلك، لكن حينما يُخاطَبون بما يعهدون فإن ذلك يؤثر في نفوسهم، ويعقلونه، حينما ذكر لهم الجمل لم يذكر ما هو أضخم من الجمل الذي هو الفيل مثلاً؛ لأنه ليس بأرضهم ولا يعهدونه، وهكذا حينما ذكر نعيم أهل الجنة ذكر النخل والرمان وأشباه ذلك من الثمار، وذكر لهم السدر والطلح؛ لأن هذا هو الموجود في بلاد العرب، ليست بلادهم بلاد ثمر، إنما يوجد فيها العنب والرمان والنخل فذكر لهم هذه الأشياء، ما ذكر لهم الثمرات الأخرى التي توجد في الدنيا لهذه العلة -والله تعالى أعلم-، فالسدر يعرفونه، لكن سدر الجنة يختلف عن سدر الدنيا، فسدر الدنيا لا شأن له حقير، والله عاقب "سبأً" بأن أبدلهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ[سورة سبأ:16]، فهو كثير الشوك قليل الثمر لا يشبع صغيراً، والعناء الذي يحصل من تطلبه أكثر من النفع الذي يحصل فيه، وبذلك لا تكاد تجد الناس ينتفعون به انتفاعاً ظاهراً كما ينتفعون بغيره في الدنيا، فالحاصل أنه يذكر لهم هذه الأشياء التي يعهدونها لكن في الجنة الأمر يختلف تماماً، فالطير كالناقة البختية، والشجرة هذه –الطلح- التي يرونها كثيرة الشوك ومؤذية لكن فيها ظل وهم في بلاد حارة أحوج ما يكونون إلى الظل، فهذا يحرك نفوسهم، يسير الراكب تحتها مائة عام لا يقطعها، يعني أكبر شجرة من الطلح لربما يمشي الإنسان من ساقها إلى آخر حد فيها مما يقابل آخر فرع لربما لا يمشي أكثر من سبع خطوات، وهذه مائة عام لا يقطعها، فهذه أمور لا يمكن للإنسان أن يتصورها؛ لأنها من العظمة بمنزلة لا تخطر على بال، هذه في الأشياء التي يعهدونها ويعرفونها كيف لو حدثهم عن أشياء لم يسمعوا بها أصلاً من نعيم أهل الجنة؟!، يقول:فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ نقل عن جماعة من السلف قال: "هو الذي لا شوك فيه"، والقول الآخر: "الموقر بالثمر" ثم جمع بينهما: الموقر الذي لا شوك فيه، وهذا الوجه في الجمع بين القولين وجه حسن ويدل عليه قول قتادة: كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك فيه، الموقر يعني المملوء بالثمر، فهنا كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك فيه جمَعَ بين المعنيين، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله-، والله تعالى أعلم.
هذا الحديث ثابت عن النبي ﷺ ، والمقصود بـ "الملبود" من أهل العلم من يفسره بأنه قد تلبد شعره بعضه على بعض، وهناك تفسير أقرب من هذا -والله تعالى أعلم- أنه المكتنز باللحم، وكأنه لزم بعضه بعضاً فتلبد فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لونٌ آخرَ، هذا الحديث يفسر معنى "الطلح" كما سيأتي فإن من أهل العلم من قال: إن الطلح هو الموز، ومنهم من قال: الشجر المعروف من شجر العضاه، شجر له شوك معروف في بلاد العرب يستظلون به ولا ينتفعون بثمره، إنما هو للظل وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، بمعنى أن هذا الحديث يدل على أنه قُطع شوكه، وكثر ثمره، نَضَدَ، وهذا أولى ما يفسر به.
شجرة العضاه يعني كل شجر له شوك فهو من العضاه.
العرب بحاجة ماسة إلى الظل، وأعظم شجر عندهم يستظلون به هو شجر الطلح، ولكن ينغص عليهم ذلك كثرة الشوك الذي فيه إلى درجة أنه يتساقط، فإذا أردت أن تستظل تحت شجرة منه تحتاج إلى عمل وجهد من أجل تنقية المكان من الشوك الشديد الصلب القوي الذي يتأذى به من يجلس تحت هذه الشجرة، وفي الجنة طلح ليس فيه شوك، وهذا لا معهود لهم به، "وقال مجاهد:مَنْضُودٍ أي: متراكم الثمر" يعني: نُضد، مكان كل شوكة ثمرة، فإذا تخيلت هذا هو شجر كله شوك لا تستطيع أن تحصي وتعد الشوك الذي فيه فنُضد بعضه إلى بعض، هذا الثمر الذي مكان الشوك، ومن السلف من قال: إنه الموز، والموز قالوا: يسمى بأرض اليمن بالطلح، وهذا الحديث يدل على أنه شجر الشوك المعروف، وهو المتبادر المشهور عند الإطلاق في كلام العرب، ومن أهل العلم -كالحافظ ابن القيم- مَن وجّه قول من قال: إنه كالموز بأنه لم يقصد تفسيره وبيان حقيقته، وإنما قصد بذلك التقريب والتوضيح بالمثال، بالتمثيل كيف هذا الثمر المنضود فيه؟ قالوا: كالموز مثل الموز، كيف يكون ثمر الموز؟ قد نُضد بعضه على بعض، هكذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، ويحتاج إلى تأمل؛ لأن الذين فسروه بذلك قالوا: وإن الموز يسمى في أرض اليمن بالطلح، فهم قصدوا الموز عيناً ولم يذكروه لتقريب صورة الثمر في هذا الشجر مكان الشوك.
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ والأصل أن يحمل كلام الله على المعنى الظاهر المتبادر الأشهر في كلام العرب إلا لدليل يجب الرجوع إليه، فيحمل على المعنى الآخر، ومن أهل العلم من فسر المنضود بالذي قطع شوكه، وهذا لا ينافي ما سبق: قطع شوكه وصار مكانه ثمر، خضب شوكه، وبعضهم فسره بمعنى آخر قال: الذي لا يعقر اليد، من أراد أن يتناوله فإنه لا يصيبه الشوك فيمتنع منه، وهذا من قبيل التفسير باللازم، فإذا خضب شوكه فإنه لا يعقر اليد، ولا يجرح اليد، ولا يصيبها، فهم لم يقصدوا تفسيره تفسيراً مطابقاً بهذا، فهذا مثال على التفسير باللازم، وهو شجر قطع شوكه، وصار موقراً بالثمر والله تعالى أعلم، يقول: أهل اليمن يسمون الموز الطلح، ولم يحكِ ابن جرير غير هذا القول، بل إن ابن جرير قال: هذا قول الصحابة والتابعين، وعزا القول الأول أنه شجر الشوك المعروف عزاه لأبي عبيدة معمر بن المثنى فقط، أما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه يقول: هو شجر له شوك، وأما قول الصحابة والتابعين فإنه الموز، وابن جرير لم يفهم مرادهم أنهم قصدوا التمثيل فقط لطريقة الثمر في ذلك، فإن ابن جرير يذكر هذا ويذكر هذا، -والله تعالى أعلم- لكن الحديث يبين أنه شجر له لشوك.
- رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (13765)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2734).