الأحد 11 / ذو الحجة / 1446 - 08 / يونيو 2025
وَكُنتُمْ أَزْوَٰجًا ثَلَٰثَةً

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله:وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين.
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً الأزواج بمعنى الأنواع أو الأصناف، فالصنف يقال له: زوج، وهذه الأصناف هي المذكورة في آخر السورة في قوله:فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ۝ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ۝ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ[سورة الواقعة:88-91] إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى-، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: "ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف قوم عن يمين العرش" يعني: أصحاب الميمنة، وقيل لهم أصحاب الميمنة؛ لأنهم عن يمين العرش، ولأنهم خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين، فهي أربعة أشياء، ومن السلف من قال: لأنهم يكونون عن يمين العرش، ومنهم من قال: لأنه يؤخذ بهم ذات اليمين، ومن قائل: لأنهم خرجوا من شق آدم الأيمن، ومنهم من قال: إنهم يؤتون كتابهم بأيمانهم، فجمعها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جميعاً؛ لأنه ليس عندنا ما يحدد واحداً منها، فكل هؤلاء أصحاب ميمنة، فمن يأخذ كتابه بيمينه من أصحاب الميمنة، ومن يؤخذ بهم ذات اليمين من أصحاب الميمنة، وعن يمين العرش من أصحاب الميمنة، وهكذا.

قال السُّدِّيّ: وهم جمهور أهل الجنة.

يعني: أكثر أهل الجنة من أصحاب اليمين، فالدليل على أنهم أكثر أهل الجنة قوله:وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ[سورة الواقعة:40]، وقال في السابقين ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ[سورة الواقعة:13-14]، فهؤلاء أكثر أهل الجنة بينما في السابقين: قليل من الآخرين، فأكثر أهل الجنة من أصحاب اليمين، وليسوا من السابقين.

وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار -عياذًا بالله من صنيعهم.

ذكر المعاني الأربعة في أصحاب الشمال، ومن أهل العلم من يقول: العرب تعبر باليمين والشمال عن الرفيع والوضيع، فالمعاني التي ذكرها هنا أقرب، والله أعلم.

وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين؛ ولهذا قال:فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ۝ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ۝ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.

يعني: هذا الاستفهامفَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ يراد به التعجب، والتعظيم أيضاً والتفخيم الْحَاقَّةُ ۝ مَا الْحَاقَّةُ[سورة الحاقة:1-2] فمثل هذا الذي يذكر مبهماً هكذا يكون أوقع في النفس وأفخم سواءً كان في مقام الوعيد أو كان في مقام الترغيب أو كان في مقام المدح والثناء، ويترك للسامع أن يتصور ما تحته من معانٍ، فيسرح الذهن في تصور ذلك،فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ بعض الناس يقول مثلاً: أنا الذي تعرفني، ما يحتاج أن يشرح، ولا يفصل كقول الشاعر: "وشِعري شِعري" يعني: شعري شعري الذي تعرفونه، يقول: "قلمي قلمي"، يقول: إذا كتبت عرفتم كتابتي، يعني فقلمي الذي تعرفون فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ.

وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى:ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية [سورة فاطر:32].

مع وجود فارق فإن أصحاب المشأمةأَصْحَابُ الشِّمَالِ[سورة الواقعة:41] هؤلاء هم الكفار الذين يؤتون كتابهم بشمالهم، وفي هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ هي في طوائف هذه الأمة، يعني أمة الإجابة؛ لأنه قال بعدها:جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا[سورة فاطر:33]، فالجمع بهذه "الواو" يدل على أن الطوائف الثلاث تدخل الجنة،فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ولهذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه "الواو" أن تكتب بماء العينين؛ لأنها جمعت طوائف الأمة الثلاث، كلهم يدخلون الجنة.

وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد:وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ: هم الأنبياء -عليهم السلام-، وقال السُّدِّيّ: هم أهل عليين.

هذا من قبيل التفسير بالمثال، وقد لا يريد قائله الحصر، وإنما أراد أن يمثل من هم السابقون،فقال:الأنبياء،الرسل، الصديقون، فيقرب المعنى بذلك وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، يقال فيه كما سبق، يعني السابقون هم الذين اشتهرت حالهم بهذا وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ لا يحتاج إلى أن يفصل ويصف،وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ لا تسأل عن حالهم ومعينهم، السابق هو السابق، تقول: المجتهد هو المجتهد وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، ويحتمل: السابقون إلى الإيمان والعمل الصالح هم السابقون إلى الجنة.

والمراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أُمروا، كما قال تعالى:وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ[سورة آل عمران:133]، وقال:  سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ[سورة الحديد:22]، فمن سابقَ في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى:أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۝ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

السَّابِقُونَ هم الذين يبادرون بفعل الخير، يفعلون الواجبات والمستحبات، ويتركون المحرمات والمشتبهات والمكروهات، ومن كان يبادر ويفعل النوافل، ولكنه يعصي الله ويتبع هواه فإن هذا لا يكون من السابقين، والله تعالى أعلم.