وقوله:نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً قال مجاهد، وقتادة: أي تُذَكّر النارَ الكبرى.
قال قتادة: ذُكر لنا أن رسول الله ﷺ قال:يا قوم، ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية! قال:قد ضُربت بالماء ضربتين -أو مرتين- حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها[1].
وهذا الذي أرسله قتادة رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ:إن ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد[2].
وروى الإمام مالك عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال:نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية! فقال:إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا[3]، رواه البخاري من حديث مالك[4]، ومسلم، من حديث أبي الزناد[5].
وقوله:وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والنضر بن عربي: معنى لِلْمُقْوِينَ المسافرين، واختاره ابن جرير، وقال: ومنه قولهم: "أقوت الدار إذا رحل أهلها".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقوي هنا الجائع.
وقال ليث ابن أبي سليم، عن مجاهد:وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ للحاضر والمسافر، لكل طعام لا يصلحه إلا النار.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله:لِلْمُقْوِينَ المستمتعين، الناس أجمعين، وكذا ذكر عن عكرمة.
وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل محتاجون للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى، وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى بها، واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها سائر الانتفاعات، فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عامًّا في حق الناس كلهم.
فقوله -تبارك وتعالى-:أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ قال: "يعني السحاب"، قوله -تبارك وتعالى-:أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ يؤخذ منه أن جميع الماء المودع في الأرض مما يستخرج من الآبار أو يخرج من العيون أو يجري في الأنهار كل ذلك نازل من السماء، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ كما قال الله -تبارك وتعالى-:وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ[سورة المؤمنون:18]، وقوله -تبارك وتعالى- هنا:وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ[سورة الواقعة:73] بعدما ذكر النار وأنها آية:أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ[سورة الواقعة:71-72]، فهذه إحدى الآيات على قدرة الله على إحياء الموتى، أن يُخرج هذه النار الحارة المحرقة من الشجر الأخضر كما قال الله -تبارك وتعالى-:الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ[سورة يس:80]، فقوله:تُوقِدُونَ مفسر لقوله:تُورُونَ، وهذا من أوضح صور تفسير القرآن
بالقرآن، وقوله -تبارك وتعالى- هنا:وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ نقل هنا عبارات السلف قال: يعني "بالمقوين" المسافرين نقله عن ابن عباس وجماعة، وهذا التفسير أشبه ما يكون بالتفسير باللازم؛ لأن أصل معنى "المقوين" يعني: النازلين بالأرض القَوَى وهي الأرض الخلاء، الأرض الخالية الصحراء فإذا فسر بالمسافرين كأنه تفسير بلازمه؛ لأن المسافر يقطع الأرض الخلاء يمر بها فيحتاج إلى النار التي يصطلي بها وما إلى ذلك، كأنه تفسير باللازم، ولا إشكال في هذا، ونقل عن بعضهم أن المُقوي هو الجائع، والقول الآخر الحاضر والمسافر، وهو الحاضر والمسافر باعتبار أن النار يحتاج إليها الجميع، والله تعالى هنا خص المقوين، ومفهوم المخالفة هنا وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ لا يحتج به، ولا عبرة به، ومفهوم المخالفة حجة عند الجمهور ولكنه لا يحتج به في نحو سبعة مواضع أو ثمانية، وأحد هذه المواضع: هو ما خرج مخرج الامتنان، كما قال في المراقي:
ودع ما إذا الساكت عنه خافا
| أو جهل الحكم أو النطق انجلب | للسؤل أو جرى على الذي غلب |
| أو امتنانٍ أو وفاق الواقع | والجهلِ والتأكيد عند السامع |
فهذا من الامتنان، يمتن الله عليهم بهذا وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ فإذا كان مفهوم المخالفة هنا لا يحتج به فمعنى ذلك ألا نقول: إنها متاع للمقوين، وغير المقوين ليست بمتاع لهم، فلو أعملنا مفهوم المخالفة، "ومتاعاً للمقوين" إذاً ليست بمتاع لغيرهم هذا مقتضى مفهوم المخالفة، لكنه هنا غير معتبر؛ لأنه جاء ذلك في سياق الامتنان، يمتن الله عليهم بهذا، كما قال الله في البحر:لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا[سورة النحل:14]، فهذا لا يدل على أن القديد أو المجفف من لحم البحر لا يجوز أكله، أو ما طفا على البحر ومات، وألقاه البحر أنه لا يجوز أكله، وإنما خص الله اللحم الطري لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا للامتنان، فهنا وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ فسره من فسره قال: يعني المستمتعين من الناس أجمعين، فالذي فسره بهذا الاعتبار نظر إلى هذه الحيثية، فمفهوم المخالفة هنا لا يعتبر، وأن المقصود بذلك الامتنان وإلا فهي متاع للجميع، ولهذا ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- العلة بتخصيص المقوين بالمسافرين؛ لأنهم أشد حاجة إليها من المقيمين، أشد حاجة أيضاً فيه ملحظ آخر يمكن أن يذكر عند قوله:وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ قلنا: إن المقوين يعني المسافرين، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: فيه إشارة باعتبار أنه حكم على الجميع بأن المقوين إذا ما قلنا: إنه فقط المسافر، قال: باعتبار فيه إشارة إلى أن جميع البشر مسافرون، وأن هذه الحياة قصيرة، كراكب استظل تحت ظل شجرة، فالجميع مسافرون وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ للمسافرين، وهذا أشبه ما يكون بالتفسير الإشاري، ولا أعني به التفسير بالإشارة عند الأصوليين وهي دلالة اللفظ لمَا لم يكن القصد له قد علما، وإنما المقصود بالتفسير الإشاري الذي يذكره أرباب السلوك والتصوف، ومنه ما هو صحيح مقبول بشروط، ومنه ما هو مردود، وأكثره مردود، فهنا يمكن أن يدخل بهذا المعنى "المقوين"، وابن القيم -رحمه الله- لا يخفى عليه أن "المقوين" بمعنى المسافرين، ويعرف أقوال السلف، لكنه أخذ منه أن التعبير بهذا فيه إشارة إلى أن الناس جميعاً على سفر، ومثل هذا من شروط التفسير الإشاري: ألا يفسر به النص، يعني الآن لما نأتي نفسر الآية:
وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ نقول: متاعا لجميع الناس باعتبار أنهم مسافرون في هذه الحياة الدنيا حتى يصلوا إلى الآخرة، ليس هذا هو المعنى المتبادر إطلاقا، ولكن يذكر المعنى الأصلي وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ أي: المسافرين، ويؤخذ من التعبير بذلك -أو عبر بذلك- كأنه لمّا كان الناس -في الحقيقة- في انتقال من الدنيا إلى الآخرة مثلاً، من هذا الباب فقط، لا لأنه تفسير للآية، هذا من أهم شروط التفسير الإشاري: ألا يقال: إنه هو معنى الآية، وإنما يذكر معناها ثم يذكر مثل هذا، ويوجد له أمثلة صحيحة، ولطيفة، ويوجد له أمثلة فاسدة لا تصح إطلاقا.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3092)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم، برقم (2843)، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: فضلت عليهن بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها .
- رواه أحمد في المسند، برقم (7327)، وقال محققوه: هذا الحديث رواه سفيان بن عيينة بإسنادين:الأول: متصل، رواه عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ، وهوصحيح على شرط الشيخين.والثاني: مرسل، رواه عن عمرو -وهو ابن دينار المكي-، عن يحيى بن جعدة، وعمرو بن دينار ثقة من رجال الشيخين، ويحيى بن جعدة تابعي ثقة، روى له أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي في "الشمائل"، وابن حبان في صحيحه، برقم (7463)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
- رواه مالك في الموطأ، برقم (1804)، وأحمد في المسند، برقم (10032)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3092).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم، برقم (2843).