من أهل العلم من فسر "المدينين" بالمجازين والمحاسبين، وهو معنى معروف صحيح لهذه اللفظة، تقول: كما تدين تدان، كما تعامل الناس يعاملونك، كما تُجازِي تُجازَى، ولهذا قيل له: "يوم الدين" أي يوم الجزاء والحساب،فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ يعني إن كنتم غير مجازين ولا محاسبين كما تزعمون ما هناك بعث ولا حساب، ولا كذا فأرجعوها إن كنتم صادقين، فطالما أنكم لا تؤمنون بالجزاء فأرجعوا هذه الروح إلى الدنيا لتبقى فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، وكلمة مدين "دان" لها معنى آخر غير الجزاء، تقول: "دان له الناس" بمعنى انقادوا وذلت نفوسهم ذلوا له تقول: "هذا طريق مذلل" ليس معناه أنه محاسب ومجازي، وإنما مُعبّد ممهد، فـ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، يعني: غير مقهورين مستذلين مستعبدين تحت ملك قاهر يتصرف فيكم كما يشاء فخلّصوا أنفسكم، خلصوا هذه إن كنتم غير مربوبين لله غير مقهورين تحت سلطانه وحكمه، وتصرفه التام فخلصوا صاحبكم هذا الذي نفسه تحشرج، فهذا معنى جيد، وقيل: من قال غير مجازين أو محاسبين هو معنى قريب وهو أحد معاني مدانين، وقال به كثير من السلف، وممن اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-، فهذه معانٍ صحيحة، وابن القيم له كلام على هذه جيد
فقال-رحمه الله-: "فإن قيل: أي ارتباط بين هذين الأمرين حتى يلازم بينهما؟، قيل: هذا من أحسن الاستدلال وأبلغه، فإنهم إما أن يقروا بأنهم مربوبون مملوكون.."[1].
ثم قال -رحمه الله-: " عبيد لمالك قادر متصرف فيهم، قاهر آمر ناهٍ، أو لا يقرون بذلك، فإن أقروا به لزمهم القيام بحقه عليهم، وشكره وتعظيمه وإجلاله، وأن لا يجعلوا له نداً ولا شريكاً، وهذا هو الذي جاءهم به رسوله، ونزل عليه به كتابه، وإن أنكروا ذلك وقالوا: إنهم ليسوا بعبيد ولا مملوكين ولا مربوبين، وإن الأمر إليهم يردون الأرواح إلى مقارها إذا بلغت الحلقوم، فإن المتصرف في نفسه الحاكم على روحه لا يمتنع منه ذلك، بخلاف المحكوم عليه المتصرف فيه غير المدبر له، سواء والذي هو عبد مملوك من جميع الجهات، وهذا الاستدلال لا محيد عنه، ولا مدفع له، ومن أعطاه حقه من التقرير والبيان انتفع به غاية النفع وانقاد لأجله للعبودية وأذعن ولم يسعه غير التسليم للربوبية والإلهية، والإقرار بالعبودية، ولله ما أحسن جزالةَ هذه الألفاظ وفصاحَتها وبلوغَها أقصى مراتب البلاغة والفصاحة، والاختصارَ التام، ونداءها إلى معناها من أقرب مكان، واشتمالَها على التوبيخ والتقرير والإلزام، ودلائل الربوبية والتوحيد والبعث"[2].
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " المعنى: فلولا ترجعونها أي تردون الروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين مملوكين، إن كنتم صادقين، وهنا الثاني شرط للأول، والمعنى إن كنتم صادقين في قولكم فهلا تردونها إن كنتم غير مدينين"[3]،
هنا فسرها بمربوبين، وفي الموضع الأول قال: مجزيين محاسبين ثم ربطه بـ المربوبين،
فالآن صرح بالمعنيين، هذا من أحسن ما يكون، وعامة من يتكلم في التفسير يقول: القول الأول والقول الثاني، ومن يكتب في التفسير يأتي باختلاف التنوع الواضح الصريح ويقول: القول الأول والثاني والثالث وهكذا.
وقال سعيد بن جُبَيْر، والحسن البصري: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [سورة الواقعة:86] غير مصدقين أنكم تُدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس.
وعن مجاهد: {غَيْرَ مَدِينِينَ} غير موقنين.
- التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (237).
- المصدر السابق (237-238)..
- بدائع الفوائد، لابن القيم (3/766)، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا وغيره، مكتبة نزار مصطفى الباز -مكة المكرمة، ط1، سنة النشر: 1416هـ.
- الجواب الكافي، لابن القيم (146)، دار الكتب العلمية -بيروت.
- المصدر السابق (146).