وقوله:وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ أي: وأما إذا كان المحتضر من أصحاب اليمين، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ أي: تبشرهم الملائكة بذلك، تقول لأحدهم: سلام لك، أي: لا بأس عليك، أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين.
كما قال عكرمة: تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
وهذا معنى حسن، ويكون ذلك كقوله تعالى:إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت:30-32].
وقال البخاري:فَسَلامٌ لَكَ أي: مُسلّم لك أنك من أصحاب اليمين. وألغيت "أنّ" وهو: معناها، كما تقول: أنت مُصدَّق مسافر عن قليل، إذا كان قد قال: إني مسافر عن قليل، وقد يكون كالدعاء له، كقولك: سقيًا لك من الرجال، إن رفعت "السلام" فهو من الدعاء.
وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية، ومال إليه، والله أعلم.
هذه المعاني التي أوردها كلها ترجع إلى أحد المعنيين اللذيْن تحتملهما الآية من جهة "كاف" الخطاب إلى من تتوجه فَسَلامٌ لَكَ، هل تتوجه لصاحب اليمين سلام لك يا صاحب اليمين؟ أو تتوجه مثلاً إلى النبي ﷺ؟ فهذا يحتمل، فإذا كانت تتوجه مثلا إلى النبي ﷺ سلام لك أي لست ترى فيهم إلا ما تحب من السلامة، سلام لك لا ترى فيهم إلا ما يسرك هذا معنى ذكره بعض أهل العلم، وقريب منه قول من قال: فلا تهتم بهم فإنهم يسْلمون من عذاب الله، لا تهتم بهم لا ترى فيهم إلا ما تحب، وهكذا قول من قال: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ أنه يصل سلام لك منهم، وقول من قال: أنت سالم من الاغتمام بهم كالأول، أو أنهم يسلّمون عليك ويدعون لك، هذا كله على أساس أن "كاف" الخطاب ترجع إلى النبي ﷺ،فَسَلامٌ لَكَ أنه تسليم منهم، أو أن ذلك بمعنى أنهم سالمون فلا تهتم لشأنهم أو سلام لك منهم، ويحتمل أن تكون "الكاف" هنا خوطب بها صاحب اليمين، وهذه كل المعاني التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهي ترجع إلى هذا، سلام عليك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، فإخوانك من أصحاب اليمين يسلمون عليك، وابن جرير فسره بمعنى آخر بمعنى سلام لك أنك من أصحاب اليمين فسَلِمتَ من عذاب الله، سلام لك أنك من أصحاب اليمين، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر القول الأخير، أو ما قبل الأخير،فَسَلامٌ لَكَ قال: "أي مسلم لك أنك من أصحاب اليمين"فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، فالآية تحتمل أن يكون ذلك متوجهاً إلى النبيﷺ فـ "السلام" بمعنى السلامة، "سلام لك" فيحتمل أن يكون تسليماً منهم، ويحتمل أن يكون ذلك متوجهاً إلى صاحب اليمين، بمعنى التسليم أو بمعنى البشارة بالسلامة، وقد يكون بمعنى التسليم له، بمعنى مسلم لك أنك من أصحاب اليمين، كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين، لكن ما قبله أوضح منه، والله تعالى أعلم.
وقوله:وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى،فَنزلٌ أي: فضيافة مِنْ حَمِيمٍ وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود،وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته.
ثم قال تعالى:إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي: إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحد عنه.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وأما قوله تعالى:وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فليس هذا سلام تحية، ولو كان تحية لقال: فسلام عليه كما قال:سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ[سورة الصافات:109]،سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ[سورة الصافات:79]، ولكن الآية تضمنت ذكر مراتب الناس وأقسامهم عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله، فذكر أنهم ثلاثة أقسام: مقرب له الروح والريحان، وجنة النعيم، ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة، فوعده بالسلامة، ووعد المقرب بالغنيمة والفوز، وإن كان كل منهما سالما غانماً، وظالم بتكذيبه وضلاله، فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم، فلما لم يكن المقام مقام تحية، وإنما هو مقام إخبار عن حاله ذكر ما يحصل له من السلامة، فإن قيل: فهذا فرق صحيح لكن ما معنى اللام في قوله: "لك"؟ ومن هو المخاطب بهذا الخطاب؟ وما معنى حرف "مِن" في قوله:مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِفهذه ثلاثة أسئلة في الآية، قيل: قد وفينا بحمد الله تعالى بذكر الفرق بين هذا السلام في الآية، وبين سلام التحية وهو الذي كان المقصود، وهذه الأسئلة وإن كانت متعلقة بالآية فهي خارجة عن مقصودنا، ولكن نجيب عنها إكمالاً للفائدة -بحول الله وقوته- وإن كنا لم نر أحداً من المفسرين شفى في هذا الموضع الغليل، ولا كشف حقيقة المعنى واللفظ، بل منهم من يقول المعنى فمسلم لك أنك من أصحاب اليمين، ومنهم من يقول غير ذلك مما هو حوْم على معناها من غير ورود، فاعلم أن المدعو به من الخير والشر مضاف إلى صاحبه بلام الإضافة الدالة على حصوله له، ومن ذلك قوله تعالى:أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ[سورة الرعد:25] ولم يقل: عليهم اللعنة، إيذانا بحصول معناها وثبوته لهم، وكذلك قوله:وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ[سورة الأنبياء:18]، ويقول في ضد هذا: لك الرحمة، ولك التحية، ولك السلام، ومنه هذه الآية فسلام لك أي ثبت لك السلام وحصل لك، وعلى هذا فالخطاب لكل من هو من هذا الضرب فهو خطاب للجنس أي فسلام لك يا من هو من أصحاب اليمين، كما تقول: هنيئا لك يا من هو منهم، ولهذا -والله أعلم- أتى بحرف مِن في قوله: من أصحاب اليمين والجار والمجرور في موضع حال أي سلام لك كائناً من أصحاب اليمين، كما تقول: هنيئا لك من اتباع رسول الله وحزبه، أي كائناً منهم، والجار والمجرور بعد المعرفة ينتصب على الحال كما تقول: أحببتك من أهل الدين والعلم، أي كائناً منهم فهذا معنى هذه الآية، وهو وإن خلت عنه كتب أهل التفسير فقد حام عليه منهم من حام وما ورد، ولا كشف المعنى ولا أوضحه، فراجع ما قالوه والله تعالى الموفق المان بفضله"[1].
من أهل العلم من قال: إن الإشارة في قوله:إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ترجع إلى ما قصه الله وأخبر به في هذه السورة، وكثير من المفسرين يقولون: إنها ترجع إلى الأخير، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله- ومعنى حَقُّ الْيَقِينِ: عند الكوفيين من النحاة أنه من باب إضافة الشيء إلى نفسه، بمعنى مثلما تقول:وَلَدَارُ الآخِرَةِ[سورة يوسف:109] فالدار هي الآخرة وَمَكْرَ السَّيِّئِ[سورة فاطر:43] فالمكر هو السيئ،حَقُّ الْيَقِينِ فالحق هو اليقين بهذا الاعتبار على هذا المعنى، والله أعلم.
- بدائع الفوائد، لابن القيم (2/374- 375).