هذا من الاختصار الذي يخل، لأن الكلام هنا ليس مستقيماً يعني: وَلا تَفْرَحُوا بِمَا أتَاكُمْ هذه ضعها بين قوسين، هذه قراءة أبي عمرو قراءة متواترة، فهنا ما أتى بها على أنها قراءة، وَضَعَها هكذا، فالقارئ حينما ينظر إليها يقول: "فلا تأسوا على ما فاتكم"، لأنه لو قدر شيء لكان، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا أتَاكُمْ يظن أنها خطأ في الكتابة - فقط الهمزة -، وإنما هي قراءة متواترة، الآية قرأها الجمهور: بِمَا آتَاكُمْ أي: بما أعطاكم، لا تفرحوا بما أعطاكم، والقراءة الثانية قراءة أبي عمرو: بِمَا أَتَاكُمْ يعني: جاءكم، وقال: والقراءتان متلازمتان، بمعنى: أن ما أعطاك إياه وصلك، جاءك، وما جاءك فقد أعطاك الله إياه، بينهما ملازمة، وإن كان المعنى يختلف إلا أن المعنيين متلازمان، "لكي لا تفرحوا بما آتاكم".
في قوله هنا: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا يمكن أن يحمل كما قال جماعة من السلف على الفرح المذموم، الذي يَحمل على الأشر، والبطر، والخيلاء، والتكبر، والتعالي، كما قال من نصح قارون قالوا له: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76] فالفرح منه ما هو محمود مطلوب: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [سورة يونس:58] الفرح بالإسلام، وبظهوره، وانتشاره، وانتصار المسلمين، هذا كله قربة، وطاعة، ويدل على الإيمان، والله يحبه، وهناك فرح مباح، كأن يفرح الإنسان بالتفوق في دراسة، أو ربح تجارة؛ أو نحو هذا، فهذا لا إشكال فيه، والنوع الثالث هو الفرح المحرم الذي يحمل صاحبه على الأشر، والبطر، والكبر كما قال الله : وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ [سورة الإسراء:37] يعني: فسر بالفرح، لكنه الفرح المذموم، هنا وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ يحتمل أن يحمل على هذا المعنى، ويحتمل أن يحمل على الفرح المعروف، لأنه قابله بالحزن: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ.
ويقول هنا: أي: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم، ولا كدكم، وإنما هو عن قدر الله، ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم الله أشراً .. إلى آخره، الآن ظاهر من كلام ابن كثير تفسير الفرح هنا بالفرح الذي يحمل على الأشر، الفرح المذموم، ولماذا يعني النهي عن الحزن، واضح أن هذا بقدر، لكن النهي عن الفرح: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ؟ الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا علله كما ترون بأن ذلك ليس من كدكم يعني: كتب للإنسان رزقه، وأجله، وعمله، وهو في بطن أمه، وهذا التقدير العمري، وكتب أيضاً في اللوح المحفوظ التقدير الأزلي، فهذا ليس من كدكم، ولا ذكائكم، ولا سعيكم، وإنما كتبه الله لكم، وقدره؛ فلا داعي للفرح وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، ويمكن أن يكون النهي هنا عن الفرح أو التعليل بذلك كما قال بعض أهل العلم باعتبار أن هذا زائل عما قريب، والله ساقه لكم، وقدره لكم، وتأتي مقادير الله على ما قدر، فسيأتي اليوم الذي تفارقونه فيه، أو يفارقكم؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن ذلك يعني: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ لأن المصيبة فيه قد كتبت، المصيبة فيه كتبت أبداً، إن حصل اجتماع الأهل، والأقارب، والأسرة في عيد، أو أجازة أو غير ذلك - مناسبة - سيأتي الافتراق، فالمصيبة فيه حاصلة، إن حصل أن الناس خرجوا في نزهة أو نحو ذلك فرحوا فعما قريب يتثاقل الواحد منهم أن يحمل نفسه فضلاً عن أن يحمل أمتعته حينما يرجع، وهكذا في كل أمور الإنسان، فالمصيبة فيها حاصلة لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، ومن أهل العلم من يقول: لأن هذا لا يستحق الفرح أصلاً، فهو متاع قليل زائل لا يستحق هذا كله.
والآية مرتبطة بالقدر، وهذا تعليل صريح: لِكَيْلَا يعني: أعلمناكم بذلك لكيلا يحصل منكم هذا، فيكون باعتبار أن الإنسان يعرف أن هذه الأمور مقدرة، فلا يجزع إذا وقعت له مصيبة، ولا تطير به النعمة فيخرج عن طوره، ويَبطَر، وتأخذه أو تحمله نشوة الفرح على أمور لا تليق، وإنما يبقى على حالة مستقرة ثابتة يلزم فيها الصراط المستقيم في أحواله كلها، في المصيبة، وفي أوقات المسرات، والفرح، وكثير من الناس لا يتمالك نفسه في الفرح فيتصرف بما لا يليق، إن جاء زواج له أو نحو ذلك وقع منه ما لا يليق، والناس إذا أردت أن تعرف عقولهم فانظر إلى تصرفاتهم في المصيبة، وفي أفراحهم، ومناسباتهم؛ تعرف عقول الناس، كثير من الناس تجدهم في حال من الرزانة، وإذا جاء عندهم عرس رأيتهم في خفة النساء، ورأيت حرصهم، وتباهيهم، واستماتتهم على الظهور، وإذا نظرت إلى الأصباغ في وجوه النساء، والألوان؛ هؤلاء ما عُرفوا بهذا، الناس كانوا يظنون أنهم ناس أهل رزانة، فأصابهم شيء من الخفة في هذه المناسبة، طاشت عقولهم، وكذلك في الأحزان تجد الإنسان أحياناً تظنه ثابتاً، ورابط الجأش، وقد تجده أحياناً يبكي بكاء النساء أو الأطفال في المقبرة، أو في العزاء، أو مما ينتقده عليه حتى الأطفال الصغار، والناس ينظرون إليه وكذا، وقد رأينا من يغمى عليه في الهيئة، ويصيح بأعلى صوته في المقبرة، ويتجمع الناس عليه، ويسقط شماغه، فمثل هذه الأشياء الإنسان ما يكتشف حقيقته أحياناً أو لا يعرفها الناس إلا في مثل هذه المقامات؛ ولذلك تكلم العلماء على مسألة العطايا والهبات في أوقات الحزن الشديد، وفي أوقات الفرح الشديد، وكره من كره من أهل العلم أخذ ذلك؛ لأنه يندم، فهو في حالة الفرح الشديد يمكن أن يقول: خذ مفتاح السيارة، خذ كذا، خذ لك مائة ألف، وإذا رجع إلى عقله - انتهت السكرة - بدأ يتندم، وكيف أنا فعلت هذا؟!، هذا كان يمكن أن نعطيه ألفي ريال، كيف أعطيته سيارتي وكيف؟!، وهكذا تجده في وقت الحزن الشديد أيضاً قد يتصرف تصرفات عجيبة، والله المستعان.
ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أي: مختال في نفسه متكبر، فخور أي: على غيره.
وقال عكرمة: "ليس أحد إلا هو يفرح، ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا، والحزن صبرًا".
هذا بمعنى الكلام الذي ذكرته آنفاً، لا يحملكم الفرح على ما لا يليق، ولا تحملكم المصيبة على الجزع، والنعمة لا تحملكم على البطر وما لا يحسن ولا يجمل، انظروا إلى الناس في الأعياد، وفي غيرها من المناسبات.
وقوله: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني هل الذين يبخلون عائد إلى ما قبله ويكون كالتفسير له، من هو المختال الفخور؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، لا ليس كذلك، وإنما هذا كلام جديد مستأنف وليس تفسيراً لكل مختال فخور، والمختال الفخور قد لا يكون كذلك، وإنما هو كلام جديد الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ والخبر مقدر أي فإن الله غني عنهم مثلاً، كما يدل عليه ما بعده.
والبُخل فيها قراءة متواترة أخرى، قراءة حمزة والكسائي بفتحتين يعني: البَخَل، والمعنى واحد، هي لغة أهل المدينة، أو لغة الأنصار.
وهذه الآية فيها نوع من القراءة معروف من أوجه الأحرف السبعة، وهو ما يعبرون عنه بالزيادة والنقص، فهنا يقول: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وفي قراءة نافع وابن عامر: فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بدون هو، والأحرف السبعة الأقرب في تفسيرها أن المراد بها سبعة أوجه من وجوه التغاير، بالاستقراء غير التام، من ذلك مثلاً الإبدال: إبدال لفظة بلفظة مثل "كالصوف" مكان "كالعهن"، قراءة غير متواترة، وإبدال حرف بحرف التاء والياء: "تعملون ويعملون"، مثلاً السين والصاد: "صراط وسراط"، وكذلك أيضاً التقديم والتأخير: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم" قراءات غير متواترة، وكذلك أيضاً الزيادة والنقص: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ العَصْرِ[سورة البقرة:238]، باعتبار أنها قراءة غير متواترة طبعاً، وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79]، "وكان أمامهم"، هذا من الإبدال، وأيضا "ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً"، "صالحة" غير متواترة، وهنا: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، "فإن الله الغني الحميد"، وكلاهما متواتر، وهنا يرد سؤال معروف وهو أنه إذا كان عثمان جمع الناس على حرف واحد وهو حرف قريش، وأيضاً كتب المصاحف، وأمر الناس .. فكيف وُجدت هذه "فإن الله هو، وفإن الله الغني الحميد"؟ يقال: إن ذلك يرجع إلى حرف قريش بالوجهين ففرقه في المصاحف، ما كان يرجع إلى حرف قريش كتبه على وجه في مصحف، وكتبه على وجه في مصحف آخر: تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُتَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ.