الأربعاء 06 / شعبان / 1446 - 05 / فبراير 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا۟ فِى ٱلْمَجَٰلِسِ فَٱفْسَحُوا۟ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُوا۟ فَٱنشُزُوا۟ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[سورة المجادلة:11].

يقول تعالى مؤدباً عباده المؤمنين وآمراً لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ وقرئ في المجلس، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح:من بَنَى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة[1]، وفي الحديث الآخر: ومن يَسَّر على مُعْسِر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه[2]، ولهذا أشباه كثيرة؛ ولهذا قال تعالى:فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ.

قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضَنّوا بمجالسهم عند رسول الله ﷺ، فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض.

وروى الإمام أحمد والشافعي عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: لا يقيم الرَّجلُ الرَّجلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا[3]، وأخرجاه في الصحيحين.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم[4]، ورواه أيضاً بلفظ:لا يقوم الرجلُ للرجل من مجلسه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم[5]، تفرد به أحمد.

 

قوله -تبارك وتعالى-:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ، هناك نَهَى عن النجوى، وهي كما سبق قصد الانفراد في الحديث، إذاً يكون حديثهم مشتركاً مع الآخرين، يعني في المجلس يشتركون معهم، فذكر لهم آداب المجالس، لما نهاهم عن النجوى والانفراد والاختصاص، إذاً سيكون الحديث في المجالس يشترك فيه الجميع، لا ينفردون عنهم، فما هي آداب هذه المجالس؟

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ، تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ، قراءة عاصم هي هذه التي نقرأ بها، وقراءة الجمهور في المجلس، وما الفرق بين القراءتين؟ هذه جمع وهذه مفرد، ولكن المفرد بمعنى الجمع؛ لأن المجلس اسم جنس، فيصدق على المجلس الواحد وعلى المجالس،تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ، الحافظ ابن كثير يقول: إن المراد بها أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس، وبعضهم يقول: هي مجالس النبي ﷺ، فكان الرجل لربما يسبق إلى القرب من مجلس رسول الله ﷺ، كانوا يتفانون في محبته وفي القرب منه ﷺ، فلربما جاء الرجل من أهل العلم فلم يجد مكاناً يسمع فيه كلام النبي ﷺ فيظل بعيداً، أو نحو ذلك، فأُمِروا بالتفسح في المجالس، ولهذا عقب بعدها بقوله:يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، فهؤلاء الذين أوتوا العلم هم أولى بالقرب من رسول الله ﷺ؛ لأنهم يسمعون كلامه ويعونه ويفقهونه، لكن قد يكون بالقرب منه -يسبق إلى القرب منه- مَن ليس كذلك، لا يكون فقيهاً، ولا يعقل عن رسول الله ﷺ، فأُمروا بالتفسح، وفي حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً النهي عن أن يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، قال:ولكن تفسحوا، بل كان ابن عمر إذا قام له أحد من مجلسه لم يجلس فيه، مع أن النهي أن يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه، لا يقل له: قم، لكن يتفسحوا، أُمروا بالتفسح، وفعل ابن عمر لا يدل عليه الحديث، لكن لكمال أدبه ما كان يجلس في مكان أحد ولو قام له عنه، وإلا فالنبي ﷺ كان إذا جاء قامت إليه فاطمة -ا- وأخذت بيده وأجلسته في مجلسها، وهكذا كان يفعل معها ﷺ.

وبعضهم يقول: إن المقصود بالمجالس مجالس القتال،تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ، في الصف،وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ[سورة آل عمران:121].

فبعضهم يقول: هذا هو المراد، وابن جرير -رحمه الله- حمله على المعنيين، قال: لا يوجد دليل يخصص هذا أو هذا.

وبعضهم كالقرطبي حمله على ما هو أعم من ذلك كله، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-، يعني العموم المطلق، ما يُخص بمجالس القتال أو مجالس النبي ﷺ، فيدخل فيه سائر المجالس، مجالس الناس يوم الجمعة، في الصلوات، في حضور مجالس العلم، مجالس القتال، في مجالسهم في مناسباتهم، لا يقيم الرجل أحداً من مجلسه فيجلس فيه، ولا يقام أيضاً أحدٌ من مجلسه، يعني قد يقال لبعض الناس، قد يقال لبعض الشباب، لبعض حدثاء السن: قم، فيجلس فيه رجل آخر، هذا له اعتبار، وابن عباس لربما جلس بجوار النبي ﷺ وهو صغير، كما تعرفون في الحديث في الشرب، واستئذان النبي ﷺ منه، فقال: لا أؤثر بنصيبي منك، فلا يقام من مجلسه فإن ذلك له آثار، لكن يبقى الكلام في مسألة الصلاة خلف الإمام، إذا جاء هذا الصغير وجلس خلف الإمام، وأحياناً يبادر ويسرع والمؤذن يقيم ويجلس في مكانه، فمثل هذا يقال له: لو سمحت بالكلام اللطيف، لو سمحت اذهب لمكان آخر، سواء جلس في مكان المؤذن أو لم يجلس في مكان المؤذن، خلافاً لما قاله بعض أهل العلم من أنه لا يقال له ذلك، وأنه أحق به؛ لأنه سبق إلى هذا المكان، وإنما قصر أولائك الذين كان ينبغي أن يبكروا ويأتوا لِيَلِيني منكم أولو الأحلام والنهى[6]، وأنه كان المفروض أنهم هم الذين يبكرون ويأتون في هذا المكان، فلما تخلفوا وتأخروا وجاء هذا، فمن سبق إلى مكان فهو أولى به، هذا من حيث النظر الفقهي لا إشكال فيه، لكن عندنا أثر صحيح عن أبيّ بن كعب أنه أخذ غلاماً وأبعده من مكانه خلف الإمام، قال: هي السنة، وهذا هو الصحيح، فهذا المكان ليس له، فيأتي الأطفال خلف الإمام، ويصلون خلفه، هذا ليس بموضع لهم، فيقال له: لو سمحت خذ لك مكاناً ثانياً، لكن لا تجرح مشاعره، فلربما ينفر من المسجد، فهؤلاء الصغار لهم مشاعر وليسوا يحملون أحاسيس ميتة، بل هم أكثر إرهافاً في الحس لربما من الكبار أو من كثير من الكبار.

إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ، وعليه، على العموم إذا قال لكم أي قائل: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا، فليس لأحد أن يقيم أحداً من مكانه، ليجلس هو فيه، أو ليجلس غيره فيه، يعني قد يقول لولده أو يقول للسائق أو الخادم: قم، ويقول لآخر: يا أبا فلان تعال هنا، هذا ما يصح، يا أخي هذا الذي جالس هو أحق بهذا المكان، كيف يقال له: قم؟!، فهذا فيه نوع تحقير وإهانة له،إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا إذاً هي تحمل كما قال القرطبي: على المعنى الأعم، أيّ مجالس، والتفسح والتوسع،فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ، الجزاء من جنس العمل، وقد مضى في بعض المناسبات الكلام على درس أظن سلامة الصدر، أو الأعمال القلبية، وأن ذلك يحمل أيضاً على الأعم من معانيه، يعني بعضهم يقول: يفسح الله لكم في الصدر، بعضهم يقول: يفسح الله لكم في الرزق، يفسح لكم في القبر، يفسح لكم في الجنة، في الآخرة، فالأقرب أنه يحمل على هذا كله؛ لأن حذف المقتضى يدل على العموم النسبي، فهنا ما قال: يفسح لكم في الصدر، ولا قال: يفسح لكم في القبر، وإنما حذف المقدر -المقتضى- فيحمل على العموم المناسب في هذا المقام، فيقال:يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ في ذلك كله، انفساح في الصدر، وانفساح في الرزق، وانفساح في القبر، وانفساح أيضاً في الآخرة، فإذا كان الإنسان يتفسح للناس في المجلس فإن صدره يتسع لهم، وهذا من الإحسان المتعدي، والإحسان لا شك أنه من أعظم أسباب الانشراح، انشراح الصدر، وسعة الصدر، وهو من أسرع ما يؤثر فيه ذلك، الإحسان إلى الناس، الإحسان المتعدي، فإذا كان الإحسان مع الله فهذا هو العمود والركن الأساس في انفساح الصدر واللذة والسعادة والسرور والانشراح الذي لا يعرف صاحبه الغم والكآبة وضيق الصدر، لكن للإحسان إلى الناس أثر سريع في نفس اللحظة، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ في طرق الناس يفسح، لكن هنا الآية في المجالس، لكن أيضاً يؤخذ منها أنه أيضاً يفسح في الطريق؛ لأن المقصود واحد، وإذا لم يفعل الإنسان هذا ضاقت نفسه، وانقبضت وصارت في غاية الحرج، ضيقة، تنكمش، ويجد الإنسان من الضيق ما لا يخفى مما لا يعرفه كل أحد في نفسه، إذا كان الناس يبحثون عن أماكن في صلاة الجمعة، في مكان مزدحم في الحرم، إذا كان الإنسان لا يمكن أن يمكّن أحداً أن يأتي يصلي بجانبه ويضيق بهم ذرعاً، ويحمل هم ذلك اليوم من أجل أنه يبكر ثم يضيق بهؤلاء الذين يبحثون عن أماكن، فهو يرقبهم، وربما لا يسمع الخطبة، وإنما ينظر إلى هؤلاء أين يذهبون، لا يأتي أحد منهم بجواره، وإذا جاء أحد بجواره لم يتحرك، ولم يتفسح، وكأنه لا يسمع ولا يحس بهؤلاء، فتجد هذا نفسه تكون في غاية الضيق، لكن لو أنه يفسح للناس ويوسع لهم، سيجد أن نفسه في غاية السعة، ولو كان المكان الذي هو فيه محصور، وفي غاية الضيق، ولا يستطيع أن يحرك رجله، لكن صدره يتسع كثيراً، وأما صاحب النفس الضيقة فلو وُضع في مساحة شاسعة لوحده فإن نفسه في غاية الانقباض، فهذه أمور تُرى آثارها وتُعرف، ويجدها المرء من نفسه،تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا، وهذا أمر والأصل أن الأمر للوجوب،يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ.

وهنا يقول قتادة: نزلت في مجالس الذكر، لكن هي تشمل مجالس الذكر وغير مجالس الذكر من جميع المجالس.

وقد رُوي عن ابن عباس، والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى:إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ يعني: في مجالس الحرب.

وهذا لا يصح عن ابن عباس -ا-، لا يثبت هذا عنه .

طالب: رُوي بصيغة التضعيف، قال: رُوي بصيغة التضعيف، وقد رُوي.

ومعنى قوله:وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي: انهضوا للقتال.

وقال قتادة:وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.

هنا قوله -تبارك وتعالى-:وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا،الشيء الناشز يعني المرتفع، المرأة الناشز: هي المترفعة عن طاعة الزوج، ترفعت على طاعة الزوج، ترفعت على زوجها، يقال لها: ناشز، ويقال: هذا مكان محل ناشز، موضع ناشز، نشاز من الأرض أي مكان مرتفع.

وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا يعني: ارتفعوا، قوموا فقوموا،وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا، انشزوا يعني ارتفعوا، وبعضهم يقول: إلى قتال عدوكم، يعني من يقول مثلاً: إن ذلك في مجالس القتال،تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ، وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا، قوموا لقتال عدوكم، كذلك انشزوا إلى الصلاة، قوموا إلى الصلاة، أو مثلاً قوموا عن مجلس رسول الله ﷺ فقد كان ﷺ يتأذى بذلك أي طول المكث عنده، والله -تبارك وتعالى- أخبر أن ذلك يؤذي النبي قال:فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ[سورة الأحزاب:53]، فالقيام من مجلس رسول الله ﷺ، القيام إلى الصلاة، القيام إلى الجهاد، إذا قيل لكم: قوموا لأي شأن، فتحمل على المعنى العام الذي تحتمله هذه الآية.

ابن جرير -رحمه الله- حملها على التفرق عن مجلس رسول الله ﷺ، إذا قيل لكم: قوموا، يعني لا تطيلوا المكث عنده ﷺ فتشقوا عليه.

فهذا المعنى داخل فيه، ولكن ظاهر الآية أعم من ذلك فتحمل على الجميع، والله تعالى أعلم.

قال هنا:يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، هذا له تعلق بأولها كما سبق تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ، فهؤلاء من أهل العلم هم أولى بالقرب من مجلس رسول الله ﷺ.

وأيضاً امتثال هذه الأمور، ومراعاة هذه المعاني والآداب هذا من شأن أهل الفقه والعلم، كما قال الله في سورة النور:وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ[سورة النور:28]، لكن أصحاب الجفاء الذين لم تتروض نفوسهم بهذه الآداب يرون أن هذا من قبيل الإساءة إليهم، لكن أهل الفقه والعلم لا يرون في ذلك غضاضة، فهنا قال:يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، والمقصود به أن درجات أهل الإيمان متفاوتة، فأهل العلم في مرتبة أعلى، كما رفعهم الله من سائر المؤمنين، ففاوت الله بين الناس هذا التفاوت، ولذلك هذا الأمر يجب مراعاته وحفظه وحفظ مكانة أهل العلم من أجل أن الناس يرجعون إليهم، وينتفعون بهم، وإلا فإلى مَن يرجع الناس؟، وهذه الوسائل الآن الجديدة التي يتواصل بها الناس يسمونها وسائط ووسائل التواصل الاجتماعي تهدم ذلك كله، فتجد أجهل الجاهلين يجترئ على أهل العلم ويرميهم بما يحلو له، ويرد عليهم، ويعقب، ويعلق، وهو لا يحسن أن يركب جملة واحدة، كلام ركيك، وإملاء لا يحسن كتابة الكلام، وجهل غليظ كثيف، إذا رأيته تقول: لا إله إلا الله، ما أحلم الله، ترى طبقات الجهل الغليظ في الفهم والركاكة في التركيب، والأخطاء الفادحة في الإملاء وفي الإعراب، ومع ذلك يكتب، تقول: فالإنسان لا يبصر عيوبه، أفلا ينظر إلى المرآة؟!، ما يبصر هذه؟!، هو لا يرى عيوبه، فلازم يعقب ولازم يتكلم، ولازم يعلق، لا يوجد كبير، يعقب على كلام أهل العلم، ويستدرك عليهم، وينتقدهم الانتقاد اللاذع الذي يكسر العظام، فإذا حصل هذا -وهذه الأمور الآن تتوجه بقوة إلى هذا أن لا يبقى اليوم كبير للأسف- فلا حرمة لأحد أياً كان، ومن ثم فالنتائج كل واحد يقول: أنا عندي ما يكفيني من البصر والعقل والفهم والعلم، فلست بحاجة إلى أحد، ثم بعد ذلك يبقى الناس في حال من العماية، يقودهم فيها أهل الضلالة، -نسأل الله العافية-، لا يرجعون لأهل العلم ولا ينتفعون لا في فتوى ولا حكم ولا رأي ولا مشورة، فيقودهم كما يقال: الشارع، وإذا قادهم الشارع معناها أنه يقودهم الجهلة، رعاع الناس، ومن كان أطول لساناً فهو مقدم عندهم، ولو كان يقودهم إلى الردى، -نسأل الله العافية-، وهذا أمر مشاهد اليوم، تشاهده في مشارق الأرض ومغاربها، كان الذين يتأثرون بهذه الطريقة نفر ممن يذهب إلى بلاد الغرب، ويرجعون وقد تشبعوا بأنماط الحياة هناك، وطرق التفكير، فيشعر أنه ليس بحاجة إلى وصاية كما يزعم، وهو من حقه أن يبدي رأيه في كل شيء، وأن يناقش في كل شيء، وأن يعترض فهو والعالم سواء، يناقش ويداخل ويعترض ويبدي رأيه، وليس عندنا كهنوت كما يقول، وأما الآن فتغيرت الأحوال كثيراً، وأصبحت هذه الوسائل الآن تُجرِّئ الناس وتدفعهم بقوة، وأنا أرى التغير الكبير ليس في عبر السنوات، بل أراه اليوم عبر الساعات وليس الأيام، الأمور تتجه بقوة الآن لهذا، فلا يبقى عند الناس أحد عنده حرمة، فلا يوجد أحد يوثق برأيه، ولا يرجع إليه، وتقودهم أهواؤهم في كل شيء، وهذا أمر يعني لا يمكن أن يكون التعامل معه من ِقِبل فرد أو أفراد أو مجموعة من الناس ليعالجوا مثل هذا الأمر المستفحل الذي هو أشبه بنار في هشيم، لكن يحتاج إلى جهود أكبر من هذا تتعامل مع مثل هذه الأحوال بطرق تحتوي فيها مثل هؤلاء الناس، والعلماء لا يمكن أن يتجاوزوا ما يدينون الله  به، ويتجاوزوا القناعات التي يلقون الله فيها من أجل أن يرضوا الشارع أو الجمهور أو هؤلاء الناس الذين ينقمون عليهم وعلى كل شيء، لا يمكن للإنسان أن يتجاوز القناعات التي عنده من أجل أن يرضي هؤلاء أو أن يطرب له هؤلاء، ويهتفون له، ثم بعد ذلك يكون عنده ما شاء الله من المتابعين من الملايين، هذا لا يمكن، بل بعض السلف قال عمن يحبه جميع جيرانه قال: هذا رجل سوء؛ لأنه لا يأمرهم بالمعروف، ولا ينهاهم عن المنكر، ولا يأخذ على يد السفهاء، هو يرضي الجميع، وطيب مع الجميع، ويجامل الجميع، ويجاري الجميع، ولا يغضب منه أحد إطلاقاً لا الفاجر ولا البر، ما يمكن هذا، فهؤلاء لربما يحصل القبول عندهم لمن كان تابعاً لهم، وهذا خطأ أن تُعكس القضية، يكون العالم تابعاً للعامة، وإنما العكس هو الصحيح، فمن الخطأ -الخطأ يعتبر خطأ استراتيجياً يعني كما يعبر أهل العصر- أن يتحول العلماء من قناعاتهم إلى طالبين لرضا هؤلاء الجمهور، هذا خطأ، لكن تحتاج إلى معالجة صحيحة بما يدينون الله به، ففي القيام بالحق ما يحصل به السداد والصلاح لأحوال المجتمع والأمة برمتها، لكن إن حصل التقصير فقد يكون ذلك أحد الأسباب المهمة في تلاعب الشيطان بهؤلاء الناس، فيجد أبواباً مشرعة للوقيعة فيهم، والله المستعان.

وقوله تعالى:يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: لا تعتقدوا أنه إذا فَسَح أحد منكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أُمر بالخروج فخرج أن يكون ذلك نقصاً في حقه، بل هو رفعة ورتبة عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رَفَع الله قدره، ونَشَر ذكره؛ ولهذا قال:يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌأي: خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.

وروى الإمام أحمد عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزي، قال: وما ابن أبزي؟ فقال: رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر : أما إن نبيكم ﷺ قد قال:إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين[7]، وهكذا رواه مسلم.

 

  1. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل بناء المساجد والحث عليها، برقم (533).
  2. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699).
  3. رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجْلِسِ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشِزُوا فَانْشِزُوا  الآيَةَ، برقم (6270)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، برقم (2177)، وأحمد في المسند، برقم (4659).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (8462)، وقال محققوه: "إسناده حسن، يونس -وهو ابن محمد المؤدب- ثقة من رجال الشيخين، ومَن فوقه أحاديثهم من قبيل الحسن، فليح: هو ابن سليمان".
  5. رواه أحمد في المسند، برقم (10266)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، سريج -وهو ابن النعمان الجوهري- ثقة من رجال البخاري، ومَن فوقه أحاديثهم من قَبيلِ الحسن. فليح: هو ابن سليمان"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (228).
  6. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام، برقم (432).
  7. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها و علمها، برقم (817).