الأربعاء 06 / شعبان / 1446 - 05 / فبراير 2025
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْا۟ قَوْمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ۝ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ۝ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة المجادلة:14-19].

يقول الله تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى:مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً[سورة النساء:143]، وقال هاهنا:أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني: اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن، ثم قال تعالى:مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي: هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود.

هنا الله -تبارك وتعالى- يُعجّب نبيه ﷺ من حال هؤلاء المنافقين، ومن قبيح فعالهم:أَلَمْ تَرَ إلى حال هؤلاء؟!،أَلَمْ تَرَ إلى هؤلاء من أهل النفاق الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟!، فإن هذا الفعل لا شك أنه يبعث على التعجب، وذلك أن هؤلاء المنافقين تولوا اليهود، وقلنا: اليهود باعتبار أن الله-تبارك وتعالى- وصف هؤلاء المتوليْن بالغضب، وإذا ذكر الغضب فمباشرة يتوجه أول ما يتوجه إلى اليهود،غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ[سورة الفاتحة:7] وهم اليهود، فاليهود أهل الغضب، وذلك أن المنافقين تولوا اليهود، والتولي يأتي بمعنى النصرة والركون إليهم، وما إلى ذلك من المعاني في ممالأتهم ومودتهم،أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، هنا ما قال: تولوا اليهود،قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، بمعنى أن غضب الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء القوم مؤذن بمباعدتهم، ومجافاتهم ومعاداتهم؛ لئلا يلحق الغضب من قرب منهم وتولاهم، فإذا كان الله -تبارك وتعالى- غضب على هؤلاء اليهود فإن من كان قريباً منهم محتفاً بهم متولياً لهم فإن هذا الغضب قد يتنزل عليه، فيلحقه حكمهم، ويصير إلى مثل حالهم، فهذه جراءة على الله -تبارك وتعالى-، هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود الذين كانوا في المدينة، يقول: كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن، وجه العجب الآخر غير أن هؤلاء من أهل الغضب وماذا يريدون من أهل الغضب، ومن القرب منهم، ومن توليهم، الأمر العجيب أن هؤلاء أيضاً الذين تولاهم هؤلاء من أهل النفاق قال الله عنهم:مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ، فهذا يرجع إلى اليهود أو يرجع إلى المنافقين؟ ابن كثير -رحمه الله- مشى هنا على أنه يرجع إلى المنافقين،أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ، أن هذا من صفة المنافقين، فهو كالشاة العوراء كما جاء وصفهم في الحديث:العائرة بين الغنمين[1]،مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء[سورة النساء:143]، فهؤلاء ليسوا من المؤمنين وليسوا من اليهود، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، كأن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ومن وافقه نظروا إلى أن الجمل الثلاث هي في صفة المنافقين،تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، الذي فعل هذا أهل النفاق،وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، فأهل النفاق هم من يفعلون هذا، والجملة التي في الوسط مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ، فهذا اعتبره الحافظ ابن كثير من جملة أوصاف المنافقين؛ لأن الله يعدد أوصافهم القبيحة، ومن أهل العلم من قال: إن هذا الوصف يرجع إلى اليهود،مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هم الذين غضب الله عليهم، القوم الذين غضب الله عليهم، وصفة هؤلاء القوم المغضوب عليهم ما هم منكم ولا منهم، وهذا في التعجيب؛ لأن هذا مقام تعجيب أبلغ وأشد، من أي جهة؟ من جهة أن هؤلاء من المنافقين الذين ينتسبون إليكم في الظاهر تولوا قوماً غضب الله عليهم، لو كان هؤلاء المتوليْن من اليهود لو كانوا من المنافقين لقيل: الطيور على أشكالها تقع، لا غرابة، يتولى المنافق منافقاً، ولو كانوا من المسلمين لقيل: هم ينتسبون إلى المسلمين في الظاهر، فمالوا إليهم وناصروهم بهذا الاعتبار، لكن هؤلاء اليهود ليسوا من المنافقين، وليسوا أيضاً من المسلمين الذين ينتسب إليهم أهل النفاق ظاهراً، فما وجه هذه الموالاة؟!، يعني هذا الوجه وهذا المعنى أبلغ وأوضح، والمقام مقام تعجيب من حال المنافقين، تولوا أناساً لا يمتون إليهم بصلة، ولا يمتون إليكم بصلة، لو كانوا يمتون إليهم بصلة لفهمنا وجه الارتباط، ولو كانوا يمتون إليكم بصلة لفهمنا وجه الارتباط، لكن هذا قسم ثالث بعيد، فهذا -والله أعلم- كأنه أقرب، فالأول له ما يؤيده باعتبار أن الجمل الثلاث تكون على نسق واحد في صفة المنافقين، والثاني أقرب ويؤيده أمران: عود الضمير إلى أقرب مذكور، وأن هذا أبلغ في التعجيب، فكأن هذا -والله أعلم- هو الأقرب، فالذي ذكره ابن كثير له وجه ويؤيده ما ذكر، والعلم عند الله ،مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ، فالجامع المشترك أمران: الأول الكفر في الباطن، والأمر الثاني: العداوة للمسلمين، فهؤلاء من المنافقين، يمكن أن يتولى جميع الطوائف إذا كان العدو المشترك هم أهل الإسلام، فتارة مع النصراني، وتارة مع اليهود، وتارة مع الملاحدة، وتارة مع الرافضة، يمكن أن يتولى جميع الطوائف، كما ترون الآن فيمن يسمون أنفسهم بالليبراليين مثلاً، هم مع كل عدو للإسلام، يثنون على الرافضة، ويمالئونهم، ويدافعون عنهم، كما أنهم مع النصارى، وهم أربابهم، كما هو معلوم، وإنما هم صنيعة من صنائعهم، تجدهم أيضاً مع اليهود حمائم لا يذكرونهم إلا بكل خير، وإن تهيأ لهم إعطاء وعود إن كان المقام يقتضي ذلك كما في بعض البلاد كما في مصر مثلاً، فهم يعلنون أن اليهود سيكونون لهم، ولهم عندهم من الحظوة والقرب والمكانة، فهذا حال المنافقين في زمن النبي ﷺ، لا يتمالئون على حزب أو على طائفة أو على مجموعة من الناس، يقولون: نحن نعيب أخلاقهم أو أوصافهم أو عندهم فهمٌ للإسلام خطأ، وعندهم تشدد، وهنا النبي ﷺ لا يمكن أن يقال: النبي ﷺ لم يكن يفهم الإسلام، فيأتي هذا الليبرالي الكبير عبد الله بن أُبي بن أبي سلول، يأتي ويقول: أنا أفهم الإسلام، وأنا أفسر القرآن، أقرؤه بطريقة بحسب ما أفهم، فهؤلاء -نسأل العافية- يتولون هؤلاء الذين ليسوا منهم ولا منكم، كل ذلك في سبب أنهم يوافقونهم في الباطن من جهة، ومن جهة أخرى شدة العداوة للمسلمين، العدو المشترك، ولهذا قال الله في توليهم لليهود قال:تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى[سورة الحشر:14] فالراجح أن الآية في المنافقين واليهود، أو في المنافقين؛ لأن السياق كان في المنافقين حينما تولوا بني النضير، وقالوا لهم ووعدوهم:لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ[سورة الحشر:11]، وكان فيما قالوا لهم:وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا[سورة الحشر:11] يعني: كائناً من كان، يعني ولا النبي ﷺ، يقولون لهم هذا، يعدونهم، فهذا من أعظم التولي، فقال الله:تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، يتولون اليهود، وتحسبهم جميعاً، هم في خندق واحد، كأنهم على قلب رجل واحد، والواقع أنهم تعصف بهم الأهواء، وهم في غاية التفرق والاختلاف والشر فيما بينهم، ولهذا قال:بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، فهذا حالهم، لكن الجامع المشترك هو هذه العداوة، العدو المشترك، فإذا كان الأشرار وحزب الشيطان يجتمعون ويتمالئون في سبيل حرب الإسلام وأهله، فحري بأهل الإيمان أن يجتمعوا، وأن يتجاوزوا ما بينهم من حظوظ النفس والخلافات والشر، وأن لا يشمت بهم عدوهم، فيتفرقون هذا التفرق الذي نشاهده، -فالله المستعان-، فهذا من قلة العقل.

ثم قال تعالى:وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين -عياذًا بالله منه- فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.

كثرة الحلف لم تذكر في القرآن إلا في حق المنافقين، اقرأ سورة التوبة، بل السورة التي خصهم الله بها وسميت باسمهم سورة المنافقون أولها:إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ[سورة المنافقون:1]، فهنا معلق على شرط يتكرر بتكرره، كلما جاءوا، كلما دخلوا،قَالُوا نَشْهَدُ يشهدون بأنه رسول الله ﷺ، ولفظ الشهادة هنا هو بمعنى اليمين والحلف، والدليل دخول لام القسم، بل جاء معه التوكيد بـ"إنّ"، إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، فهذه لام القسم، فالمقام مقام قسم، إذا جاءوا حلفوا، والله، نشهد، بل جاءوا بلفظ الشهادة، والمقام مقام قسم في موضع ذكر الله هنا لام القسم الداخلة على الجواب، جواب القسم لَرَسُولُ اللَّهِ، كلما دخلوا حلفوا، فرد الله عليهم:وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ، رد عليهم بنفس الصيغة، يشهد، وجاء بـ"إنّ" المؤكد بمنزلة تكرار الجملة مرتين،إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، قسم، لكاذبون في قولهم هذا بأنه رسول الله، لكن لئلا يتوهم أن النبي ﷺ ليس برسول الله وأن ما قالوه في ذلك لا يصح جاء بالجملة المعترضة، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، فالمحترزات في القرآن تأتي في كل موضع بحسبه، بحسب الحاجة إليه، وجاء بهذه الجملة المعترضة؛ لئلا يتوهم المعنى الباطل،وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، فهم يحلفون كلما دخلوا عليه، وما كان يفعل ذلك أبو بكر ولا عمر -ا-، فهذه الأيمان الكثيرة اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً هي بسبب أنه مهزوز من الداخل، هو يعلم أن أصابع الاتهام موجهة إليه أنه كذاب، وأن الناس لا يصدقونه، والعرب تأتي بالمؤكدات في الكلام بحسب الحاجة إلى ذلك كما هو معروف، فإذا كان المخاطب واثقاً لم يُؤتَ باليمين والحلف، تقول: جاء زيد، فإذا كان عنده نوع تردد جيء بمؤكد، فقيل: إن زيداً مسافر، فإذا كان التردد عنده أكثر جيء بمؤكد آخر، إن زيداً لمسافر، إن زيداً قد سافر، فإذا احتيج إلى أكثر جيء باليمين، والله إن زيداً لمسافر، فهؤلاء يشعرون أن الذين يواجهونهم سواء النبي ﷺ أو غيره أنهم لا يثقون بهم ولا يصدقونهم؛ لأن الكذاب يظهر الكذب من عينيه، ويظهر من ملامح وجهه، "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه"، اللسان ليس فقط أنه ينسى الكذب ثم يأتي بما يفضحه، وإنما أكثر من هذا، فلتات اللسان، طريقة حركة اللسان يعرف منها الكذاب من أول كلمة ينطق بها، لو قام يخطب ويتكلم يقول: إن الحمد لله، أهل الفراسة يعرفون الكذاب من أول ما يقول، أول ما يبدأ في أول جملة في الخطبة أن هذا اللسان كذاب، فهذا لا يخفى، يعرف حال الكاذب، يعني كيف كان القضاة يعرفون الكذابين، فالقاضي إياس المعروف بذكائه وحذقه تداعى رجلان في مال، فقال أحدهما: إنه دفع إليه هذا المال، قال: أين دفعت إليه؟ قال: دفعت إليه في المكان الفلاني عند شجرة، الثاني قال: ما أخذت منه شيئاً، فقال للمدعى عليه: اجلس، اجلس، وقال للثاني: اذهب إلى الشجرة لعلك تتذكر، لعلك أعطيته رجلاً آخر إذا أتيت ذلك المكان، فذهب، والقاضي غفل عن المدعى عليه وتركه، واشتغل بأمور أخرى، وكان يرمقه حيناً بعد حين دون أن يشعر، فلما طال جلوسه فاجأه وقال له: أتراه قد بلغ الشجرة؟ قال: لا، يقول: ما وصل إلى الآن، قبلُ كان يقول: أنا ما أعرفه، طيب كيف عرفت أنه ما وصل إلى الشجرة، وأن الشجرة تبعد عن المكان هذا بقدر كذا، وأن الرجل لم يصل إليها بعد؟، إذاً تعرف الشجرة، فقال له: يا خائن، الكاذب يظهر كذبه بأمور.

قال: وقوله:وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني: أنهم يحلفون على الكذب، الكذب قد يحلف عليه الإنسان ولا يعلم، فالكذب يأتي لمعنيين، معنى مذموم شرعاً، ومعنى لا يذم، يفسر الكذب بمعنى خاص، ويفسر أيضاً أو يعرف بمعنى أعم، الكذب بالمعنى الخاص الذي ورد فيه الذم شرعاً هو المخالفة بين اللسان وما في القلب، سواء وافق الواقع أو خالفه، هذا الكذب المذموم شرعاً، ويلحق به التخالف بين الظاهر والباطن مطلقاً، يعني مثل حال المنافق أو من يظهر شيئاً معيناً وليس في باطنه، يعني الكذب في الفعل والعمل والحال، فهذا تخالف بين ما يجري على لسان الإنسان ما يقوله وما يقر في قلبه، هذا هو الكذب المذموم، فإذا قال: زيد مسافر، وهو يعلم أنه موجود، والواقع أنه موجود، فهذا كذب أصلع، لا مرية فيه، وهنا صورة أخرى، قال: زيد مسافر، ويعتقد أنه موجود، وتبين في الحال أنه فعلاً مسافر، لكن هذا القائل لم يكن يعلم، فقال: مسافر، وفي اعتقاده أنه موجود، والواقع أنه فعلاً مسافر، فهذا ماذا يعتبر؟، هذا موافق للواقع، هذا يسمى كذباً، وهو كذب ومذموم، هذه الصورة التي ورد فيها الذم شرعاً بفرعيها، هناك إطلاق أوسع في الكذب جاء في بعض الأحاديث، وجاء على لسان الصحابة ، منها قول النبي ﷺ:صدق الله وكذب بطن أخيك[2]، لم يوافقه العسل، وكذلك تجد في كلام الصحابة: كذب فلان، يعني: أخطأ، فالتخالف بين القول وما في الخارج يسمونه كذباً وإن لم يُقصد، يعني لو جاء أحد وسئل: عشرة ضرب عشرة، فقال وهو يعتقد هذا: ألف، يقال: كذَبَ، هو لم يقصد الكذب، وإنما بمعنى أخطأ، لو قيل مثلاً: ما حكم الصلاة إذا خرج وقتها بسبب عذر؟ فقال: لا تقضى؛ لأن ذلك واقع في غير محل، يعني في غير الوقتإِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا[سورة النساء:103]، الله وقَّتَ وقت الصلاة وهذا لم يوقعها في الوقت الذي شرعه الله، فلا يقضي، فيقال: كذَبَ، بمعنى أخطأ، وهو لم يتعمد هذا، فالكذب يقال لكل ما يخالف الواقع وإن لم يُقصد، ويقال لكل ما يخالف الباطن وافق الواقع أو خالفه، وهذا هو الذي ورد فيه الذم، فهنا وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ لا خطأً منهم، وإنما وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه كذب، فيجترئون على الله ، فإذا كان كثرة الحلف مع الصدق يدل على ضعف في تعظيم المعبود ، فكيف باليمين الغموس، الحلف على الكذب وهو يعلم؟!، هذا استخفاف عظيم وجراءة على الله -تبارك وتعالى-، اليمين الغموس تغمس صاحبها في النار، الحلف وصاحبه صادق إذا كثر مذموم، تعرفون باب ما جاء في كثرة الحلف في كتاب التوحيد، لماذا جعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتاب التوحيد؟ باعتبار أن هذا الذي يكثر الحلف لو كان معظماً لله لأمسك، فلا يحلف إلا على أمور تستحق، فهذا المنافق يدخل ويخرج والحلف على طرف لسانه.

  1. رواه مسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2784).
  2. رواه البخاري، كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، برقم (5684)، ومسلم، كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم (2217).