قوله:اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ، الاتخاذ أيضاً يدل على مزيد عناية بهذا الشيء المُتخَذ، تقول: اتخذت زيداً صديقاً جليساً، اتخذت الكتاب جليساً فهذا يدل على عناية خاصة بهذا الشيء المتخذ، اتخذوا أيمانهم جنة، يعني الحلف، واليمين والحلف بمعنى واحد، إلا أن أصل ذلك أن الرجل كان إذا حلف أخذ بيمين صاحبه توكيداً للقول بالفعل، ثم تُنوسي هذا فصار يقال اليمين لكل حلف،جُنَّةً والجُنة هي الوقاية والستر، وأصل هذه المادة يرجع إلى معنى الستر، ولهذا يقال: الجِن، لاستتارهم، ويقال: الجَنّة؛ لأنها تستر من دخلها، لكثرة أشجارها، ويقال كذلك أيضاً لكل أنواع الاستعمال في هذا، الجُنّة الترس؛ لأنه يستر حامله من النبال وضرب السلاح وما إلى ذلك، فهؤلاء اتخذوا الأيمان جُنة، مثل الترس، فإذا وجهت إليهم التهمة سارعوا بالحلف وأن هذا ما حصل، وما قلنا هذا الكلام، ولم يصدر منا شيء من ذلك، فهذا -نسأل الله العافية- أدى بهم إلى النتيجة التي بعدها فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فالفاء تدل على التعليل، وهي تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا يسميه الأصوليون دلالة الإيماء والتنبيه: أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان معيباً عند العقلاء، ما الذي جعلهم يصدون عن سبيل الله؟ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً يعني: استمرءوا هذا الأمر أنه كلما وجه إليهم تهمة حلفوا، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لا، هو ينكر ويحلف أنه ما قال،يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [سورة التوبة:74]، فهؤلاء -نسأل الله العافية- الحلف عندهم شيء معتاد وسهل، ولا يتوقفون دونه، فَصَدُّوا كلمة "صد" هذه تأتي لازمة، وتأتي متعدية، تأتي لازمة بمعنى أنها لا تحتاج إلى مفعول، يعني صدوا أنفسهم، بقوا على الكفر منطوين، بقوا على النفاق، بقوا على الضلال، تقول: فلان صادٌّ، فقد تقصد بها أنه منطوٍ على نفسه، وصد في نفسه، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، بقوا على الكفر، ارتضوا هذه الحال، وإذا وجه إليهم تهمة حلفوا، هذا معناها، وتأتى متعدية "صد"، صد زيداً عن الإسلام، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم حملوها على هذا المعنى، أنها متعدية، وإن اختلفت عباراتهم في تفسيرها، يعني بعضهم يقول:فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بمعنى أنهم حينما يحلفون لا يقام حكم الله فيهم، يعني مثلاً الذي يستهزئ بالنبي ﷺ يسخر منه، هذا الذي يقول كعبد الله بن أبي: سَمِّنْ كلبَك يأكلْك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، هذا حكمه القتل، فيحلف كما حلف في بني المصطلق أنه ما حلف وما قال،فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، بعض العلماء يقول: المعنى صدوا المسلمين عن إقامة حكم الله فيهم بسبب هذه الأيمان، وبعضهم يقول:فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، صدوا عن الإسلام، إذا جاء أحد يسلم صدوه ومنعوه، وخوفوه، ونفروه، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الحج:25]، فهنا أيضاً تحتمل المعنيين، وبعض أهل العلم يقول: إنه بمعنى أنهم صدوا أهل الإيمان، الذي قبله صدوا الناس عن الدخول في الإسلام، أنهم صدوا عن طاعة الرسول ﷺ ومتابعته والجهاد في سبيل الله، والإنفاق في سبيل الله، وبعضهم يخصه بالجهاد باعتبار أن سبيل الله إذا أطلق في القرآن فالمقصود به الجهاد،فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وهذا المعنى يدل عليه مواضع من كتاب الله كقوله:قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [سورة الأحزاب:18-19] يعني: لا ينفقون ولا يتصدقون في سبيل الله، فهؤلاء صدوا عن سبيل الله، يعوقون ويثبطون، يقول:لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ[سورة التوبة:47]، يثيرون بينكم الأراجيف، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-:لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا[سورة آل عمران:168]،لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ[سورة آل عمران:156]، فهم يصدون ويثبطون الناس، وهم الذين قالوا أيضاً:لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا[سورة المنافقون:7] يعني: حتى يتفرقوا عنكم، يذهبون يطلبون بلداً آخر غير المدينة إذا مُنعوا من الصدقة، فهذا كله من هذا الصد، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ، هذا كله باعتبار أنها متعدية، ولو حمل ذلك على الجميع لكان أحسن -والله أعلم-، فهم صدوا في أنفسهم، استمرءوا البقاء على النفاق والكفر، وصدوا أيضاً غيرهم، صدوا عن الإسلام، وصدوا عن الجهاد، وصدوا عن النفقة في سبيل الله، وطاعة الرسول ومتابعته، هذا حال المنافقين.
قوله -تبارك وتعالى-:فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ، وقبلها شديد، فجمع لهم بين الإيلام والإهانة، فلهم عذاب الله بالنار التي تحرقهم ويحصل بها الإيلام، ومع ذلك يحصل لهم الهوان، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فهذا في صفة هذا العذاب، يحصل به إيلام الأجساد ويحصل به الإهانة،يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ[سورة القمر:48]،ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[سورة الدخان:49]،قَالَ اخْسَئُُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ[سورة المؤمنون:108]، وما أشبه ذلك، فيحصل إهانات شديدة لهم مع العذاب، فهذا عذاب آخر.