السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى:وَالَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَّحِيمٌ[سورة الحشر:10].

هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة:وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْه[سورة التوبة:100]، فالتابعون لهم بإحسان هم التابعون لآثارهم حسب أوصافهم الجميلة الداعون في السر والعلانية؛ ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة:وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ أي: قائلين:رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَّحِيمٌ.

هذه الآية الثالثة وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ كما ذكر الحافظ ابن كثير أن الراجح أنها ترجع أيضًا إلى ما قبلها ممن يعطون الفيء،وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، مع أن بعض أهل العلم فسر ذلك بالمهاجرين وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ من المهاجرين جاءوا بعد الأنصار، يعني أن الله مدح الأنصار قال:وَالَّذِينَ تبوءوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ثم قال:وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ يعني بعد الأنصار وهم المهاجرون فهم يستغفرون للأنصار، هذا قال به بعض أهل العلم، لكنه ضعيف، وبعضهم يقول: هم من أسلم بعد الذين تبوءوا الدار والإيمان، كما يقول قتادة ومجاهد،وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ المقصود بعد المهاجرين والأنصار ممن أسلم، ويدخل فيه من أسلم عام الفتح وبعد ذلك، وكذلك من أسلم بعدهم عبر القرون من التابعين وأتباع التابعين، وكذلك من يولد على الإسلام من الأجيال المتعاقبة، فنحن داخلون في هذا،وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ بعد المهاجرين والأنصار، وهنا يدعون لهم رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ فدعاء اللاحق للسابق والخلف للسلف يدل على أنهم على طريقتهم، وعلى منهاجهم يسيرون، وأنهم متبعون لهم، وهو تعليم من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان الذين جاءوا بعد هؤلاء أن يدعوا لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وأن يستغفروا لهم.
 

وما أحسن ما استنبط الإمام مالك -رحمه الله- من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب؛ لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم:رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَّحِيمٌ.

وروى ابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: "أُمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم، ثم قرأتْ هذه الآية:وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ الآية"[1].

الإمام مالك -رحمه الله- كان يقول: من كان يبغض أحدًا من أصحاب محمدﷺ، أو كان في قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ:وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا، ومن ثَمّ فإن الرافضي لا يستحق الفيء؛ لأن هؤلاء لا يستغفرون لهم، وليست صدورهم سليمة لأصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار، إذاً هم ليسوا من الفئة الأولى أي المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من هذه الفئة الثالثة وهم الذين جاءوا من بعدهم، وليس هناك فئة رابعة تستحق الفيء، أو تكون ممن أثنى الله عليهم، وكما قالت عائشة -ا- هنا، وجاء عن بعض السلف كابن أبي ليلى: كان الناس على ثلاث منازل المهاجرون الأولون، والذين اتبعوهم بإحسان، والذين جاءوا من بعدهم، وأحسن ما يكون أن نكون بهذه المنزلة، جاء هذا عن مصعب بن سعد، وبعضهم يقول كما ذكر القرطبي -رحمه الله-: كن شمسًا فإن لم تستطع فكن قمرًا، فإن لم تستطع فكن كوكبًا مضيئًا، فإن لم تستطع فكن كوكبًا صغيرًا، ومن جهة النور لا تنقطع، معنى هذا الكلام كن مهاجرًا، فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريًا، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله.

وجاء عن علي بن الحسين زين العابدين -رحمه الله- أنه جاءه رجل فقال: يا ابن بنت رسول الله ﷺ ما تقول في عثمان؟ كأنه يريده أن يتكلم فيه، فقال له: يا أخي، أنت من قوم قال الله فيهم:لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ؟ قال: لا، قال: فأنت من قوم قال الله فيهم: وَالَّذِينَ تبوءوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ؟ قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام، وهي قوله:وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا... الآية.

وجاء عنه أن نفرًا من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر -ا- ثم عثمان -رضي الله عن الجميع- فأكثروا فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: فمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ قالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم:وَالَّذِينَ جاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَّحِيمٌ قوموا فعل الله بكم وفعل.

وهذه الآية تدل على وجوب محبة أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، كما يقول القرطبي -رحمه الله.

وهنا وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا الغل هو ما يجده المرء في نفسه من التحامل على غيره، وهذا الغل هو عذاب في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا كان من نعيم أهل الجنة وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ[سورة الأعراف:43]؛ لأنه لا يمكن أن يستشعر الإنسان الراحة، ويهنأ بالعيش والملاذ إذا كان قلبه يمتلئ من الغل، فالغل يتعاظم في قلب الإنسان فيضيق له الصدر حتى إنه يظلم له القلب ويسود، فيظهر أثر ذلك على الوجه، يعني إذا تعاظم الغل في قلب الإنسان اسود الوجه، السواد المذموم، وليس الذي هو لون من الألوان، يعني ترى صاحب الغل يظهر هذا في وجهه-نسأل الله العافية-، وهنا هذا الختم بهذه الآية:وَلَا تَجْعَلْ المسألة تحتاج إلى دعاء حتى يتخلص الإنسان من الغل،وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَّحِيمٌ، الرأفة رحمة رقيقة، أرق الرحمة، فهذا التخلص من الغل يكون لمن رأف الله به ورحمه، ولا يُسلَم الإنسان -نسأل الله العافية- إلى نفسه فيكون أسيرًا لهذه المشاعر البائسة، ومن ثمّ فإنه يبقى في عذاب وعناء وشقاء يطحنه طحنًا، ولا يستطيع أن ينام، يتقلب على فراشه من شدة ما يجد -نسأل الله العافية-، فهذا وصف مذموم، بعض الناس -نسأل الله العافية- هو مثل الجمل يحمل في قلبه الغل ولا ينسى الإساءة، ويتربص بهؤلاء الدوائر، لا ينسى لهم الإساءة مهما اعتذروا ومهما تلطفوا، ومنهم من يحمل الغل ولكنه يبقى زمانًا وهو يحمله حتى يتخلص منه بألوان المجاهدات، يعني يحتاج إلى مجاهدة كثيرة، يحتاج إلى وقت حتى يخف ويتلاشى ذلك من نفسه، ومنهم من يحمل الغل ولكنه يقبل الاعتذار ويؤثر فيه الإحسان ويذهب ذلك من نفسه ولا يطول، ومنهم من يكون سليم الصدر، قد أعطاه الله وحباه، فهو نظيف القلب لا يتحامل على أحد من المسلمين، مخموم القلب لا يحمل غلًّا ولا غشًّا على أحد من المسلمين، فهذه نعمة عظيمة جدًا قد ينعم الله بها على بعض العباد، وقد يدخل الجنة بسبب هذا، وتعرفون حديث عبد الله بن عمرو، وقد جوّد إسناده جمع من أهل العلم كالحافظ ابن كثير، والهيثمي، وآخرين.

مثل هذا يكون من أعظم النعم التي يعطاها العبد، ويكون سبباً لنيل المعالي، والرفعة في الدنيا والآخرة، والله المستعان.

  1. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3347)، برقم (18856)، والحاكم في المستدرك، برقم (3719)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".