الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
لَئِنْ أُخْرِجُوا۟ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا۟ لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ۝ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ۝ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ۝ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۝ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ[سورة الحشر:11-17].

يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أُبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى:أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ.

فقوله -تبارك وتعالى-:أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ الآية.

لما ذكر الله -تبارك وتعالى-طوائف المؤمنين الثلاث، وأثنى عليهم ذكر بعد ذلك حال هؤلاء المنافقين معجِّبًا نبيه ﷺ من تلك الحال، وكما مضى في قوله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ[سورة المجادلة:14]، وأن الله عجّب نبيه ﷺ من تلك الحال، وهكذا أيضًا هنا أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا كعبد الله بن أُبي وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي ورفاعة بن تابوت وأمثال هؤلاء من أهل النفاق،يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، يعني عندما كان المنافقون كفارًا في الباطن صارت بينهم هذه الأخوّة لإخوانهم من أهل الكتاب، والمقصود اليهود يهود النضير، فإن عبد الله بن أُبي هو الذي قال لهم: اثبتوا ولا تخرجوا من دياركم، وسنقف معكم، ونعينكم وننصركم، ومصيرنا واحد، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، والأخوة كما في سورة الأحزاب وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا[سورة الأحزاب:18] تكون لنوع علاقة، فالأخوة تارة تكون بالنسب، وتارة تكون باعتبار القبيلة، وتارة تكون باعتبار البلد الذي يجمعهم، وتارة تكون باعتبار الاعتقاد، فالمنافقون إخوة لليهود بهذا الاعتبار أنهم جميعًا كفار في الباطن، والرؤية هنا كما سبق في قوله:أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم يمكن أن تكون بصرية.

قال الله تعالى:وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أي: لكاذبون فيما وعدوهم به، إما لأنهم قالوا لهم قولا من نيتهم ألا يفوا لهم به، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه.

سبق أن الكذب تارة يطلق على هذا، وتارة يطلق على هذا، يعني تارة يطلق على ما يحصل به الخلف بين اللسان والقلب، وهذا هو الذي ورد فيه الذم شرعًا، يقول بلسانه ما لا يعتقد بقلبه، التخالف بين قول اللسان وما ينطوي عليه القلب، والإطلاق الآخر وهو أوسع من هذا يقال لكل تخالف بين قول اللسان وما في الخارج، يعني وما يقع أو ما هو واقع، فذلك يقال له: كذب، وابن كثير -رحمه الله- يشير إلى الأمرين، يقول: يحتمل أنهم قالوا ذلك كذبًا وهم لا يريدون أن يفعلوا ذلك، فيكون التخالف وقع ما بين اللسان وما ينطوي عليه القلب، يعني قالوا لهم بألسنتهم شيئًا لا يريدون أن يحققوه، أو أنهم قالوا شيئًا علم الله أنه لن يحصل، وإن كانوا يريدون في البداية أن يفعلوا حينما قالوا هذا القول، ولكن لن يقع، فهذا الخلف يكون كذبًا، قد مضى الكلام في درس يتصل بقوله تعالى:وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ[سورة الإسراء:80]، وقلنا هناك: إن الصدق هو الحق الثابت، ويقابله مخرج الكذب، فكل مخرج يكون في باطل فهو مخرج كذب؛ لأن الباطل لا ثبات له فهو ذاهب مضمحل فصح أن يقال عنه: إنه كذب، باطل، ذاهب، زاهق، مضمحل لا حقيقة له، كل ما لا حقيقة له فهو باطل، ويمكن أن يقال عنه: إنه كذب بهذا الاعتبار.

ولهذا قال تعالى:وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ أي: لا يقاتلون معهم،وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ أي: قاتلوا معهم لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ وهذه بشارة مستقلة بنفسها، كقوله تعالى: لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِأي: يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، كقوله:إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً[سورة النساء:77]؛ ولهذا قال تعالى:ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ثم قال تعالى:لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ.  

قوله -تبارك وتعالى-:أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ لاحظ عبر هنا بالفعل المضارع أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لم يقل: "قالوا" مع أن هذا قد وقع وانتهى؛ لاستحضار الصورة الواقعة كأنك تشاهدها، كأن هذا يحصل الآن أمامك، وهذا كثير في القرآن في قوله-تبارك وتعالى-:وَجَاءُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ[سورة يوسف:16] كأنك تشاهدهم وهم يبكون، وهكذا في قوله:وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء[سورة آل عمران:112]، كأنك تشاهد القتل، عبر بالمضارع وهذا أمر كان في الماضي، وهكذا:يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُاللام للتبليغ،يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ لاحظ هذا قسم باعتبار أن اللام موطئة للقسم،لَئِنْ أُخْرِجْتُمْأي والله لئن أخرجتم لنخرجن معكم، هم يحلفون لهم على هذا الأمر الذي لا حقيقة له، وهو كذب وذاهب ولا يكون، وهذا مثال يذكر كثيرًا على كون الله -تبارك وتعالى- يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، علم ما كان وهو أن هؤلاء أهل النفاق،يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وعلم ما لا يكون حينما قالوا لهم:لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ هذا أمر لا يقع، ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لاحظ هنا قال:لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ هذا علم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ هم لا ينصرونهم لكن لو نصروهم لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ، فاشتملت هذه الآية على هذه الأنواع من علم الله -تبارك وتعالى- للغيوب.

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ الآيات تتحدث عن المنافقين،ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني المنافقين قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ۝ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ فسياق الآيات في المنافقين، وكثيراً ما تنزّل هذه الآية على اليهود، والسياق في المنافقين لكن قوله -تبارك وتعالى-:لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يحتمل معنيين:

المعنى الأول: أنهم لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يعني المنافقين لا يقاتلونكم في جمع، مجتمعين كجيش؛ لأنهم أجبن من ذلك إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر فهم جبناء، وهذا هو الذي سبب لهم هذا النفاق، وصاروا يبيعون المبدأ والدين لكل من غلب بحسب مصالحهم، هذا معنى، وهذا الموضع منها في المنافقين خاصة.

ويحتمل قوله:جَمِيعًا معنى آخر لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يعني مع اليهود، فالمنافقون واليهود لا يقاتلونكم مجتمعين، هم وعدوهم بالنصر وأن المصير واحد، وقالوا لهم هذه الوعود، قالوا لهم: واللهلَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ فهنا يحتمل أن يكون المراد لا يقاتلونكم جميعًا يعني المنافقين واليهود، فالسياق في المنافقين لكن قوله:جَمِيعًا هو الذي يحتمل معنيين، لكن لا يمكن أن يخرج المنافقون من هذا السياق وتجعل في اليهود خاصة، والأصل أنه مهما أمكن توحيد مرجع الضمائر فهو أولى من تفريقها، وهنا الضمائر متتابعة في المنافقين فكيف يُجعل هذا من بينها في اليهود؟ هذا فيه نظر، والله تعالى أعلم،لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا يعني على صفة الجيوش التي تجتمع لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ يعني لا يقاتلونكم جميعًا بحال من الأحوال لكن يقاتلونكم في قرى محصنة أو من وراء جدر، وعليه يكون الاستثناء -على قول بعض أهل العلم- من قبيل المنقطع، بمعنى لكن، يعني هم لا يقاتلون جميعًا على صفة جيش يقابل جيشًا، يجتمعون ويقاتلون، وإنما يختبئون خلف الجدران، وخلف الحصون، وباعتبار أنها في المنافقين واليهود معًا يكون الاستثناء متصلًا، يعني أنهم يمكن أن يجتمعوا لكن ليس في ميدان المعركة، فأجبن خلق الله أهل النفاق واليهود، هؤلاء لا يستطيعون أن يجتمعوا في معركة، هؤلاء بنفخة يطيرون، فهذا لابدّ أن يكون قتاله من وراء جدر؛ لأن الجبان لا يستطيع أن يواجه، ولذلك يُذكر عن أول من اكتشف أو اخترع الكلاشنكوف أنه قال: الآن قُتلت الشجاعة بأول رصاصة، يعني كان في السابق الناس الأبطال ينزلون أرض المعركة ويواجهون الأبطال، والقتال ضرب في الحديد، ضرب في الأجسام، وضرب في الرءوس، وضرب بكل مستطاع من سيف ورمح ونبل وفأس وساطور، وإن تكسرت السيوف فالحجارة، هذه كانت الشجاعة في السابق مواجهة، والجبان لا يستطيع؛ لأن أقدامه لا تحمله فبمجرد ما يرى قطرة دم يغمى عليه، هذا إذا جاء، هؤلاء لا يستطيعون هذه المواجهة، فالجبان من بعيد فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، والآن عبر الطائرات بحيث يكون في ارتفاع لا تصل إليه المضادات، فيأمن، أو يكون في مكان لا توجد فيه مضادات أصلًا فيضرب من بعيد، أو يكون في غواصة داخل البحر بينه وبين الأعداء ألف ميل، أو بمدافع من بُعد مسافات كيلو مترات بعيدًا لا يراهم ولا يرونه، ما عليه إلا أن يضع هذه الأشياء ثم بعد ذلك لا شأن له بما يقع بعد ذلك، ولا يرى العدو أصلًا، ولا يستطيع أن يواجهه، فإذا حصلت مواجهة مباشرة تخور القوى، فهذا هو حالهم، وهذا هو حالهم اليوم هل رأيتم الأعداء يواجهون وجهًا لوجه؟ أبدًا هم لا يواجهون، وإنما من بعيد بهذه الأسلحة التي وجدت في هذا العصر، وأصبح الشجاع والجبان سواء كما هو الحال في الوسائل الحديثة حيث يسرت للناس أمورًا كثيرة، ففي الأسفار مثلًا كان في السابق لربما لا يسافر الأسفار البعيدة إلا من كان لديه من الصبر والثبات والقوة ومعرفة الطريق وما إلى ذلك، ويحتاج إلى دليل وما إلى هذا، وأما الآن فأصبح الإنسان يسافر للحج بكل سهولة، في السابق كان من الأسفار المخوفة، والآن لربما حجت بعض النساء مع غير محرم، ويحج الرجل الذي لا يدبر قليلًا ولا كثيرًا، ما عليه إلا أن يركب فقط فإن لم يركب حُمل، ثم بعد ذلك يرجع، ولا حاجة له في أن يدبر قليلًا ولا كثيرًا، لا يحتاج أن يعرف الطرق، وليس خِرِّيتًا ولا صاحب همة وعزيمة، فاستوى أضعف الناس وأقوى الناس وأحسن الناس نظرًا وتدبيرًا في مثل هذه الأمور، فهذان معنيان في قوله:لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، ومثل ذلك في المصفحات والدبابات يختبئ خلف شيء، الآن لو نظرت إلى إنسان يريد أحد أن يعتدي عليه أو اضطر إلى المدافعة عن نفسه إن دافع عن نفسه لربما خلف الجدار من وراء الجدار، ولا يستطيع أن يقابل الناس، هذا الإنسان حتى في الأشياء العادية البسيطة لو أنه يخاف من دابة أو حشرة أو شيء أو فأرة أو نحو ذلك هذا لا يستطيع، فهو يخاف، وإن اضطر فهو يحتاج إلى أن يكون من وراء الباب بعصا ويغلق الأبواب؛ لأنه يخاف، هذا معلوم،لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ، هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى بالإفراد {أو من وراء جدار} وهذه متواترة لأبي عمرو وابن كثير.

ثم قال تعالى:بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: عداوتهم فيما بينهم شديدة، كما قال:وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ[سورة الأنعام:65].

افتتحت بهذا بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ للاهتمام بالإخبار عن هذا البأس أنه واقع بينهم، وكما سبق في الاحتمالين في قوله:جَمِيعًا يحتمل أن يكون المراد أن أهل النفاق بأسهم بينهم شديد وكل السياق كما سبق في المنافقين، فإذا قلنا: الآية السابقة في المنافقين لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا أي جبناء، فأيضًا هذه صفة أخرى لهم بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، وإذا قلنا: إن قوله:جَمِيعًايعني المنافقين واليهود فإن قوله:بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني بينهم عداوة شديدة لكنهم اجتمعوا على حربكم فقط، وإلا فبينهم من الشر والعداوات ما لا يقادر قدره، وقد فُسر بهذا، فبعض أهل العلم يقول:بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني العداوة الواقعة فيما بينهم، وهذا هو المشهور، وهو الأقرب والمناسب للسياق، العداوة عداوة شديدة لكن اجتمعوا لحربكم فقط، وبعضهم يقول:بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌيعني أنهم جبناء عن المواجهة، ولكن إذا كانوا يجلسون مع بعضهم فإنهم يتحدثون عن بطولات وهمية لا حقيقة لها، يعني يذكر أنه فعل وفعل وفعل، هذا في المجالس حينما يأمن، وأنه سيفعل هذا الكلام، وهو بعيد آمن مع أصحابه وأشكاله ونظرائه، يتحدث عن بطولات لا حقيقة لها، وعن أعمال لم تقع وأنه يواجه الأبطال مثل ما يذكر كثير من الشعراء أنه يقطع الفيافي ولا يخاف ولا يجبن ويصبر على المساحات الشاسعة الموحشة التي لا يقطعها إلا الواحد بعد الواحد، وقد لا يكون هذا الكلام له حقيقة، وهذا كثير في كلام الشعراء -والله المستعان- فيكون بهذا الاعتبار أنهبَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني في الكلام الذي ينسبونه إلى أنفسهم في الدعاوى الفجة العريضة، يقول لك: أنا لقيت واحدًا وقطعته نصفين وأشياء لا حقيقة لها، وبعضهم يقول:بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ في الملاسنة والكلام، ولكن في ميدان المعركة والمواجهة هم دجاج لها مناقير من حديد، لسان ولكن القلب أجوف، وليس عند هؤلاء شجاعة ولا قوة، وهذا يدل -باعتبار المعنى الذي عليه الأكثر- على اختلاف قلوبهم، وشدة العداوة الواقعة بينهم، فإن قلتَ: هي في المنافقين فهم كذلك بلا شك؛ لأنه لا يجمعهم جامع إنما كل واحد منهم يحركه هواه، حيثما وجدت مصلحته توجه، فهم لا يرتبطون بعقيدة، وليس لهم مبدأ يجتمعون عليه ويدافعون عنه إطلاقًا، فتجدهم تارة هنا وتارة هناك، وانظر إليهم في مصر على سبيل المثال هؤلاء الذين أشبعوا العالم كلامًا كثيرًا في الليبرالية والحرية في التعبير والحرية في الرأي والحرية في الاقتصاد إلى آخره أنواع الحريات التي تقوم عليها ليبراليتهم، ويطالبون بأن يكون الشعب هو الذي يملك القرار، وأن هذه إرادة الشعب وما إلى ذلك، وانظر إليهم تحولوا إلى بلطجية وباعوا كل هذه الدعاوى العريضة والمبادئ التي كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بها، أحرقوها تمامًا، فهي وإن كانت تحوي كثيرًا من الباطل في منظور الشرع إلا أنهم أيضًا لم يرعوها، ولم يلتفتوا إليها حيث كانت أهواؤهم تخالف ذلك، هم أصحاب هوى ليسوا بأصحاب مبدأ، هؤلاء الذين يقولون: إرادة الشعب وحريته هم من أكثر الناس مخالفة لهذا إذا كانت مصالحهم تقتضي خلافه، أصحاب هوى، أصحاب شهوات، عبيد لهذه النفوس والشهوات، ليسوا أصحاب مبدأ وإن حاولوا أن يرفعوا بعض الشعارات،تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى هذا المنافق يمكن أن يباع ويشترى، خذها من هذه الآية، يعني لو جاءه أحد وقال له: أنا أدفع لك إما مالًا وإما منصبًا، جاء له هذا الذي يعاديه معاداة شديدة، وجلس معه، وقال: سنعطيك ونوليك وكذا تحول إلى محالف له وترك ما كان يقوله، وتنصل من أصحابه الذين كان متحالفًا معهم، وهكذا فهم عبيد للشهوات.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى هذا في المنافقين فكذلك الحال بينهم، وهذا الذي ذهب إليه مجاهد -رحمه الله-، وإن قلت: إنها في اليهود والمنافقين فهم كذلك اجتمعوا فقط لحربكم، والجامع المشترك هو عداوتكم، وهذا أيضًا يروى عن مجاهد، لكن هناك من قال: إن هذه الآية في المشركين وأهل الكتاب، وهذا وإن قال به مثل سفيان الثوري -رحمه الله- لكنه بعيد،تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى الآية تتحدث عن المنافقين، فالمقصود أن المنافقين داخلون في الآية قطعًا، ودخول أهل الكتاب تحتمله الآية، لكن تنزيل الآية على اليهود هكذا هذا فيه نظر، يعني أن الآية تتحدث عن اليهود -في صفة اليهود- بهذا الاعتبار لا، وإن كان اليهود فيهم هذه الصفات بلا شك،ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ، وهناك في رهبتهم من أهل الإيمان التي هي أعظم من خوفهم من الله قال:ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ.

هناك ذكر الفقه، والفقه علم خاص وهو فهم ما خفي ودق، وهذا يحتاج إلى معرفة تفصيلية بأسماء الله وصفاته وما إلى ذلك، فهؤلاء أبعد الناس عن معرفة الله ، لكن قضية العقل هنا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ في التفرق، فلماذا ذكر العقل هنا والفقه هناك؟

يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم-: إن عاقبة التفرق لا تخفى على عاقل، لا تحتاج إلى فقه، فإن التفرق من شأنه أن يورث الفشل والهزيمة، فلو كانوا يعقلون ما حصل بينهم هذا التفرق فإن اجتماعهم هو الشرط الأساس للنصر، والله يقول:وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[سورة الأنفال:46] هذه الفاء تدل على التعقيب المباشر، وتدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فهي تدل على التعليل، فالتنازع يكون سببًا للفشل، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، بقدر ما عندنا من التنازع يحصل الفشل، والذين يتنازعون وهم يواجهون الأعداء سواء كانوا في ميدان المعركة الحربية أو في ميدان المعركة الفكرية أو السياسية هؤلاء قوم لا يعقلون، هؤلاء يتربصون بهم الدوائر ثم بعد ذلك يقع هذا التفرق الشديد والتراشق على الفضائيات، ويعلنون هذا الانقسام وهذه الخلافات يسمعها القريب والبعيد والعدو والصديق، هذا خلاف العقل، وقل مثل ذلك إذا كان في ميدان المعركة، وهذا أخطر، يواجهون عدوًا غاشمًا لا يرقب فيهم إلًّا ولا ذمة ومع ذلك يواجهونه وهم في غاية التفرق، هذا قطعًا خلاف مراد الله -تبارك وتعالى-، لاسيما أنهم لا يختلفون على مبدأ، لا يختلفون على دين، ولكن كيانات، هذا يقول: نحن، وهذا يقول: نحن،نحن هنا مفخمة من أنا، أعظم وأكبر من أنا-، وهذا يقول: نحن، ولا أحد يريد أن يتنازل عن نحن هذه، ولو كان المبدأ على طريقة شيخ الإسلام ما منِّي شيء ولا لي شيء كانت انتهت كل هذه الأوهام واضمحلت كل تلك الأسماء، واجتمع الناس على الحق، وقالوا: المقصود هو نصر الدين، وإعزاز كلمة الله فليكن ذلك ولا نُذكَر، ولا يكون لنا شيء، فنحن نريد ما عند الله -تبارك وتعالى-، هذا هو الصحيح، لكن هذا التفرق هو من قلة العقل، يواجهون مصيرًا حتميًّا، يعني إما وجود وإما تلف، وأعداء كثر أنواع، ومع ذلك هذا التفرق في حال الشدة فهم في الرخاء أكثر تفرقًا، ولو لم يكن ربنا -تبارك وتعالى- أمر بالاجتماع وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا[سورة آل عمران:103] -وهذا من المحكمات، والنصوص الواردة فيه كثيرة جدًا، وهي متكررة ومتنوعة- لكان العقل يقضي بالاجتماع، لو لم يرد فيه نص واحد، فكيف بهذه النصوص المتضافرة؟! ولهذا بعضهم يقول: لا توجد أمة عندها من النصوص التي تدعو إلى اجتماع الكلمة كهذه الأمة، وفي الوقت نفسه حالهم تدل على خلاف ذلك تمامًا، كأن هؤلاء قد جاءت هذه النصوص تأمرهم بالتفرق، لا توجد أمة عندها ما يدعو للاجتماع كهذه الأمة، وفي المقابل هم من أكثر الناس تفرقًا وتشرذمًا وانقسامًا، والله المستعان.

ولهذا قال تعالى:تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىأي: تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف.

قال إبراهيم النخعي: يعني: أهل الكتاب والمنافقين،ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ،