قول الله -تبارك وتعالى-:كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني مثل هؤلاء المنافقين ومن تحالفوا معهم من اليهودكَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا هنا قيده بقريب، يعني ما يمكن أن نقول: الأمم السابقة التي أهلكت، وإنما هذا في وقت قريب؛ ولهذا قال: حمله بعضهم على بني قينقاع، قال: مصير هؤلاء مثل أولئك اليهود الذين حصل لهم عن وقت قريب ما خُذلوا معه، وأجلاهم النبي ﷺ كما يقوله ابن عباس ،كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا بعضهم يقول: بنو النضير بعد قريظة، لكن كانت وقعة قريظة بعد النضير، في حصار النبي ﷺ للنضير انتقل منه إلى قريظة فصالحوه قبل المرة الثانية التي حصل فيها القتل لهم، يعني النبي ﷺ حاصر النضير ثم انسحب بالجيش إلى قريظة فصالحوه فرجع إلى النضير،كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ لكن قريظة في هذه الأثناء ما ذاقوا وبال أمرهم، يعني ماذا حصل لهم؟ حصلت مصالحة، لم يحصل إخراج ولا قتل، وإنما حصل القتل بعد ذلك في السنة الخامسة للهجرة، وبعضهم حمله على بدر، يعني على ما وقع للمشركين في يوم بدر، ونحن عرفنا أن وقعة النضير كانت بعد غزوة بدر، فهذا أمر قريب، وبعضهم يقول: هذا عام في كل من انتقم الله منه، وهذا لا بأس به مع اعتبار التقييد "قريبًا" فليس لكل من انتقم الله منه ولو منذ زمان بعيد، وإنما منذ وقت وعهد قريب، وابن جرير -رحمه الله- رجح شمولها للفئتين، والله تعالى أعلم.
قال مجاهد، والسدى، ومقاتل بن حيان: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.
وقال ابن عباس:كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْيعني: يهود بني قينقاع، وكذا قال قتادة، ومحمد ابن إسحاق.
وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله ﷺ قد أجلاهم قبل هذا.
هو يشمل هؤلاء اليهود من بني قينقاع وكذلك ما وقع للمشركين في يوم بدر فهي شاملة للفئتين، كما يقول ابن جرير -رحمه الله-، -والله أعلم-؛ لأن الله لم يحدد طائفة فلهم عبرة بما وقع عن قريب، فقد شاهدوه.
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ "وبال" هذه كلمة واحدة والواو من بنية الكلمة ليست حرف عطف،ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ يعني جزاء كفرهم، عاقبة كفرهم، يعني نالهم عذاب الله وعقابه على هذا الكفر، وأصل الوبال هو المرعى الوخيم الذي تهش له الدواب، وتستلذ ذلك ثم يقتلها، والمرعى الوخيم يقال له: "وبيل" مرعى وبيل، ويقال: هذا كلأ وبيل، أي وخيم تهش له الدابة لجودته، لجماله، لخضرته، ولكنه يقتلها فيه نباتات سامة قاتلة، يقال: هذا كلأ وبيل، مرعى وبيل،ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ هذا أخضر حلو تطرب له الدواب ولكن النهاية أنه يحبطها ويقتلها، فشبه هؤلاء في إقدامهم على المسلمين وتحالفهم ضدهم بهذه الدواب والبهائم التي ترتع في مرعى تطرب لرؤيته ولكن نهايتها وحتفها في هذا المرعى، فهنا كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ عاقبة تدبيرهم وفعلهم وكفرهم، ولهذا يمكن أن يقال:ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ يعني عاقبة ما دبروه، وأمرهم هو شأنهم.
هنا أكثر السلف خصوا ذلك بإنسان معين،كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ يعني باعتبار أن "ال" عهدية، "للإنسان" أي لإنسان معين معهود، وبعضهم كمجاهد يقول: إنها عامة، يعني أن ذلك شأن الشيطان يغري الإنسان بالكفر، ومحادة الله -تبارك وتعالى- ثم يتنصل ويتبرأ منه، كما قال الله تعالى:وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ[سورة إبراهيم:22] فيتبرأ منهم، وهكذا في يوم بدر كان معهم ولما رأى الملائكة قال:إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ[سورة الأنفال:48] فسلمهم إلى مصيرهم المحتوم، فقُتل سراتهم، ومن نجا من القتل أسر، وهذا هو الراجح، لكن على القول الأول والذي يقوله أكثر السلف هو مبناه على رواية إسرائيلية، لكن لكثرة القائلين بها لا بأس أن يذكر من باب الاعتبار، وخلاصة هذه الرواية أن نفرًا من اليهود أربعة أخوة اكتتبوا في غزوة، وكانت عندهم أخت فتفكروا ونظروا أين يضعونها حينما ينطلقون للغزو، فأتوا راهبًا في صومعته وقالوا له: اكتتبنا في غزوة ونريد أن نضع أختنا عندك حتى نرجع، بحيث يأمنون عليها، فأبى، فقالوا له: نبني لها صومعة قريبة من صومعتك بحيث تكون تحت نظرك وملاحظتك إذا احتاجت أو نابها شيء، فقال: شأنكم، المهم لا تأتي عندي، فبنوا لها صومعة وكانوا إذا ذهبوا للغزو يطيلون لربما جلسوا سنة وأكثر، وخرجوا، فكان هذا الراهب يضع الطعام خارج باب الصومعة ويغلق الباب، وتأتي هي وتأخذ الطعام وتنصرف إلى صومعتها، فجاءه الشيطان فقال له: هذه امرأة وضعيفة وأمانة وعورة وأنت رجل، فلماذا هي التي تخرج من صومعتها وتأتي إلى باب صومعتك من أجل أن تأخذ الطعام؟ لماذا لا تضع أنت الطعام عند باب صومعتها بحيث لا تضطر إلى الخروج، -لاحظ خطوات الشيطان- فصار يضع الطعام عند باب صومعتها ثم ينصرف، فتفتح الباب وتأخذ الطعام، ثم جاءه الشيطان، وقال له: هذه جارية ضعيفة تستوحش من الوحدة في هذه المدة الطويلة ولابدّ لها من مؤانسة، وهي لا تصبر كما تصبر أنت، أنت معتاد على هذا ورجل، وهذه في مكان بعيد عن الناس وخالٍ وتستوحش، لا تجد من يكلمها هذه المدة الطويلة، فلو جلست خارج الباب تسمع صوتك وتأنس بك تحدثها، يعني يحدث عليها، فصار يجلس خارج الباب خارج الصومعة ويحدثها وهي تسمع، -إلى هنا الآن لا إشكال- ثم جاءه الشيطان وقال: لو أنك دخلت داخل الصومعة حتى تراك وتأنس برؤيتك، هي تسمع فقط صوتًا لكن ما ترى أحدًا، فصار يدخل ويحدثها وهو في الصومعة، لاحظ انتقل من كونه يضع الطعام خارج باب صومعته إلى أن صار يدخل في صومعتها، ثم بعد ذلك أغراه الشيطان فوقع بها فحملت ثم قتلها، تخلص منها ودفنها، فجاء إخوتها أين الأمانة؟ فأثنى عليها خيرًا، وقال: رحمها الله أصابها مرض ثم توفيت، فدعوا له وشكروه وانصرفوا، لا يشكون فيه، فأصبحوا ذات يوم متغيرة نفوسهم، فقال أحدهم: لقد رأيت الليلة شيئًا لا أدري ما هو -يعني رأى رؤيا-، ماذا رأيت؟ والثاني يقول: أنا رأيت رؤيا، والثالث والرابع الأربعة كلهم رأوا رؤى، ماذا رأيت؟ فإذا الرؤى متفقة أن الراهب كذب عليهم، وأنه زنا بها، وأنها حملت، وأنه قتلها، وأن المكان الذي أوقفهم عليه على أنه قبر لها ليس قبرها، وقالوا: والله ما هذا إلا لشيء، يعني ما يمكن أن تتفق الرؤى، ثم ذهبوا إلى الملك الذي كان في ذلك العصر وأتوا إلى الراهب وأخذوه ثم بعد ذلك اعترف وأراهم قبرها، وأنه قتلها إلى آخره، فجاءه الشيطان وقال: أنا صاحبك، هذا لا يرجع إليك، يعني هذا الضرر ما يرجع إليك وحدك، هذا يرجع إلى الرهبان وإلى الدين وثقة الناس بالدين وتشويه سمعة رجال الدين، فأخلصك من ذلك كله بسجدة، تسجد لي سجدة وأخلصك من هذا، فهو نظر -في زعمه- إلى المصلحة العامة، ومصلحة الدين، وثقة الناس بالدين، فيقولون: إنه سجد فكان ذهاب نفسه وخاتمته بهذه السجدة، فمات -نسأل الله العافية- بسجدة للشيطان بعدما كان راهباً عابداً، فهذه من خطوات الشيطان، هذه فيها عبرة، والنبي ﷺ قال:حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[1]، وأكثر السلف يذكرون هذه في هذا المقام عند تفسير هذه الآية، وهي مروية عن جمع من الصحابة فمن بعدهم ولا تخلو من عبرة، وهذا مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس فضلًا عن بعض التابعين كطاوس وغيرهم، والله المستعان.
- رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461).